قبل عدة أشهر كتبنا هذه الكلمات عن مؤتمر التعليم القومي الذي انتهت التحضيرات والاستعدادات لعقده، وهو مؤتمر مهم للغاية عن قضايا التعليم في السودان، بنيته وهياكله ومناهجه ونظامه وبيئة التعليم وحال المعلم، وتنظم هذا المؤتمر وزارتا التربية والتعليم العام، والتعليم العالي. وينبغي التذكير بأهمية هذا المؤتمر الذي ربما يضع أرجلنا جميعاً على الضفة الأخرى بعد سنوات من تراجع التعليم ووقوفه عند حافة جرفٍ هارٍ . وما من شك أن هذا المؤتمر لا تدانيه أهمية ولا تساويه لازمة في البلاد، باعتبار أن التعليم هو أساس النهضة وركيزة الحياة والأمل والضمان في المستقبل وصناعته، وتفرضه ضرورات إصلاح حال التعليم في بلادنا الذي انتكس نكسات كبيرة باضطراب السياسات وقصور التخطيط وتنكُّب السبيل القويم في معالجة أدوائه والحد من التدهور المريع الذي أصاب قطاع التعليم والمعرفة رغم التوسع في المدارس والمرافق والجامعات والكليات الجامعية وتمدد رقعة الخدمات التعليمية على طول البلاد وعرضها. وهناك مشكلات عميقة وغائرة، لا تحتاج لنوع من المداراة وقلة الاكتراث التي يتم التعامل بها مع قضايا التعليم، ولم تعد التدابير التي تتخذ والسياسات التي تعتمد من فترة لأخرى ووضع الوزارة الاتحادية الحالي وعلاقتها بالعملية التعليمية والتربوية التي تضطلع بها الوزارات الولائية، لم تعد ذات جدوى في حل قضايا التعليم وتخفيف حد الانحدار نحو الهاوية في أوضاعه. ويذهب بالبعض اليقين والفزع للتصديق أن ما حدث في قطاع التعليم العام، فاجعة لا يمكن تصوُّر أبعادها، مما أفقد العملية التعليمية والتربوية أهم خصائصها كمعبِّر عن تطلعات الأمة وثقافتها وميزتها الحضارية وآمالها في البناء والنهضة، فمناهج التعليم الجديدة مهما كانت صوابية ما بها وعدد الذين يدافعون عنها وملابسات تغييرها ووضعها وانعدام الكفاءة في تطبيقها تسببت في تدني مستوى التعليم ووضعته على حافة الانهيار بالنظر للقدرات والمهارات وما يكتسبه التلميذ والطالب من معرفة، مما يشيء بأن التخطيط للمناهج والتخطيط التربوي سارا في متعرِّجات لولبية شائكة عجّلت بالمرض الذي أصاب التعليم في بلادنا وأقعد به عن تحقيق الأهداف والغايات الكبرى التي نريد. في ذات السياق ومقابل ذلك، لا ينكر أحد أن التوسع في التعليم العام والعالي في السودان، خلال العشرين سنة الماضية، كان كبيراً وإنجازاً ضخماً، وحقق الكثير جداً خاصة في الولايات والمناطق والأصقاع النائية، لكن المقاصد الكلية من العملية التعليمية والتربوية وتلبية الاحتياجات لمطلوبات التنمية والتأهيل ورفع القدرات ما زال حلماً بعيداً.. ولم يتراجع التعليم في البلاد إلا بتراجع أوضاع المعلمين والظلم الفادح الذي وقع عليهم وهم أهم شريحة من العاملين في الدولة والمجتمع أولى بالرعاية، لعظم وأهمية الدور الملقى على عواتقهم، فصناعة الحياة وترقيتها عبر تعليم النشء وتربيته وتقويمه وإصلاحه وتربيته، هي مهمتهم المقدسة وواجبهم الجليل، فعندما أُهمل المعلم وصار في قعر اهتمامات الدولة وأصبحت وظيفته مهمشة وطاردة وتسلّق سلم هذه المهنة من لا مهنة له ولا يتصف بخِلال المعلم وأخلاقه والتزاماته، وانتهى عهد المعلم كأحد أبرز القيادات الاجتماعية الشعبية في القرى والأرياف والمدن، وغاب دور المربي والهادي إلى الطريق القويم. أما التعليم العالي فقضاياه معروفة وشاخصة، رغم نجاح تجربة التوسع الأفقي في الجامعات وتناثرها في الولايات وتحقيقه هدف التنمية الاجتماعية المنشودة، لكن تظل قضاياه ومشكلاته تحتاج لنظر عميق وحوار صريح ودقيق لتلافي الآثار السالبة لهذه التجربة وإصلاح إعوجاجها.من هنا لابد من الإشارة إلى أن مؤتمر التعليم الذي ينطلق يوم 19 فبراير الجاري بمشاركة خِيرة العقول السودانية في مجال التعليم والتربية والمناهج وتخصصات أخرى ذات صلة، لابد له من الخروج بنتائج وحلول شاملة وحاسمة تعيد للتعليم قوته وجودته وإحاطته وللمعلم دوره ومكانته، وتعيد ترتيب أولوياتنا في بناء أمة سودانية متحضِّرة ومتدينة وقادرة على إدراك مستقبلها. وهناك قضايا حيوية لابد من التركيز عليها خاصة ما يتعلق بالسلم التعليمي وزيادة سنوات مرحلة الأساس وتركيز الجرعة التعليمية، ومراجعة المناهج بما يتوافق مع نظرة تطويرية شاملة تقتضي توسعاً في الرؤية واستئناساً بتجارب دول عديدة أصلحت من حال التعليم. المهم في هذا الجانب، العمل من كل الجهات المشاركة في هذا المؤتمر وقيادة الدولة على إنجاح هذا المؤتمر والخروج بقرارات وتوصيات عملية لبلوغ المرام.