يتدحرج أمل الصحافيين من فضاء لا متناهٍ إلى زقاق ضيِّق، كلما حلموا وعملوا على إرساء قواعد صلبة وراسخة للحرية الصحفية، التي تعني الكثير في مضمار الحياة العريض وركيزة من ركائز التفاعل السياسي المفضي للاستقرار، لكن ثمة معادلة مهمة للغاية لم تفهم بعد في بلادنا، تجعل من الصحافة ملطخة الأيدي بجُنَح ترتكبها وهي ليست من وظيفتها، ولا سلوكاً أصيلاً من الممارسة الراشدة، وبين شهوة السلطة في أي زمان ومكان في البطش بالصحافة وكسر أقلامها وإسكات صوتها وجعلها مجرد طبّال يقف وراء الجوقة السلطوية على مسرح الحياة السياسية. دلّت التجربة أن غياب هذه المعادلة.. جعل الصحف ضحية توضع رقبتها على المقصلة، ويحز عنقها سيف الجلاد، ولم تسلم صحف كثيرة عندنا من الأذى وأريق على جوانبها الدم للمسافة شديدة الضباب والدخان التي تحجب عن الجميع استكناه ومعرفة الدور الحقيقي للصحافة، كرقيب حاضر وحاملٍ شعلة التبصير يدلف لمدخل كهف السلطة المظلم، مقابل سلطة تنظر بتوجُّس لا غرار له وما له من قرار، للمدى الذي يمكن أن تصله الصحافة وهي في لجّة الضباب من خطايا وانحراف عن طريق لولبي حاد على حافة الهاوية المحرمة. ولو فهمت الحكومات واجب الصحافة لتركتها تعمل.. ولو عرفت الصحافة واجبها لما تركت الحكومة تعمل كيف تشاء.. ولاهتدت للصواب في تناولها للقضايا والشؤون بعيداً عن السقوط عند سفح القضايا الشخصية والتجريح والشتم والذاتية وتمريغ دور الصحافة في تراب القيل والقال والسند الضعيف في الرواية والمرويات. الواقع الذي نعيشه ليس ميداناً فسيحاً للحريات الصحفية حدوده مجرات السماء، لكنه حَلَبة مثل حَلَبات التنافس أركانها موصولة بالحبال والمقيِّدات التي تجعل من الصحافة والصحافيين مخلوقات برمائية تعيش في ماء الحرية كالأسماك وتتنفس من زفير غضب السلطة التي تلطم متى شاءت، والصحيح أننا لا نستطيع التحديد بدقة، ما هي حدودنا في راهن الصحافة الآن بالرغم من معرفة الكثير منّا بمسؤولياته المهنية واللياقة الأخلاقية التي تجعلنا نعمل في مثل هذه الظروف ونتعايش مع مصالحنا في البقاء كبقع من ضوء ضئيلة، قبل أن نتصانع في البقاء في كنف السلطة وتحت سمعها وبصرها وقلقها المهول مما تسوِّد به الصحافة صحائفها كل يوم.. وربَّ قائلٍ إن الصحافة يجب أن لا تلوي على شيء، تقول كلمتها وتمشي، تفرض مسارها وتمر، تنتزع حقها لتعيش، تجالد السلطة لتنتصر، قد يكون هذا هو المثالي الصحيح، لكن الصحافة جزء من الواقع السياسي وبنيته وتوجهاته، والاجتماعي وتحولاته وتقاطعاته، والاقتصادي ومعطياته والتزاماته، لا تستطيع الفكاك منه ولو كانت بقوة هرقل.. ولا يمكنها تجاوزه ولو عملت على ذلك بسرعة الضوء، فالكوابح أكبر من السوانح، والمتاح لا يمكن قياسه على مقياس ريختر السياسة وزلزالها واهتزازاتها. وأنا في بيت الله الحرام بعيداً عن عالم الصحافة وعكاظها المقام هذه الأيام بالبلاد في تسابق محموم حول فضح قضايا الفساد أو التكسُّب من نشرها، سمعت عن إيقاف صحيفة «التيار» لتضاف هي الأخرى لعقد منظوم من الصحف الموقوفة التي لحقها غضب السلطة ووصمت بالخطأ والجريرة الفادحة التي لا غفران لها. ومؤلم حقاً أن توقف صحيفة ويُعلّق صدورها، ومؤلم أكثر أن يشرَّد عشرات الصحافيين من مصدر رزقهم وهو عملهم الذي لا فكاك لهم منه، وأن لا تجد السلطة غير هذا الإيقاف القسري التعسفي، وسيلة أخرى لمواجهة أخطاء الصحافة وتجاوزاتها وهي كثيرة بعدد حفنة من تراب. الحل ليس الإيقاف، الحل مشترك، أوله خلو الصحافة من المطامع والمثالب والأجندات الشخصية وقيامها بواجبها المهني في تقديم المعلومات حتى يتمكن الرأي العام من الحكم على القضايا العامة والساحة السياسية، وعدم تحول الصحافيين لقضاة يصدرون الأحكام. والأمر الثاني، أن الحكومة إن ولغت في دم الصحف المسفوح النازف من الصحف الموقوفة فلن ترتوي إلا من أخطائها، وستجد نفسها من غير نصير ولا رقيب وعندها فإن نار السلطة ستأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله من لحم الصحافة الغائب.