قلنا في مقال الأمس إن ترجمة مفردة الإستراتيجية أو إيجاد بديل لها في أية لغة من الأمورالعسيرة والصعبة والتي تكاد تكون مستحيلة.. فقصارى ما يستطيعه الباحث المجد المجتهد أن يشرح مفهوم الإستراتيجية في جملة أو جملتين.. وعلى كثرة المحاولات وسهولة الاطلاع عليها إلا أنك تجد نفسك دائماً في حاجة إلى تعريف جديد وتحس بأن الموجود الآن في المراجع والمظان لا يسمن ولا يغني من جوع. لذلك أرى أن مصطلح أو تعبير الخطة الإستراتيجية ليس دقيقاً بل الأحسن أن يقال إستراتيجية الخطة.. أي الإستراتيجية التي يلتزم بها واضعو الخطة. وإستراتيجية الخطة هي المكوِّنات التي لا غنى للخطة عنها.. وهي نوعان من المكونات: المكونات الحاكمة المكونات التقديرية. أما المكونات الحاكمة في كل خطة فترجع إلى الكليات الدينية والأخلاقية التي يلتزم بها واضعو الخطة.. وبلغة العصر الآيديولوجية، وأياً كان المجال الذي تعالجه الخطة سياسياً أو اقتصادياً أو صناعياً أو زراعياً أو تنموياً أو سكانياً فإن المكونات الحاكمة تدخل في لب الإستراتيجية.. بل وتحكم بقية المكونات. وهذه المكونات الحاكمة الإستراتيجية هي العلامة الفارقة بين كل جماعة وجماعة أو بين كل أمة وأمة وبين كل مذهب ومذهب أو بين كل حضارة وحضارة.. أي بين كل إستراتيجية وأخرى. إن الإستراتيجيات المادية تبني هياكلها وبرامجها على الطبيعيات وعلى العلم التجريبي وعلى الجهد البشري وعلى الحسابات المادية والبحتة وصحيح هناك مجال للأخلاق الإنسانية فيها ولكنه مجال محدود جداً. أما مسائل الغيبيات ومسائل السلوك الشخصي ومسائل أخلاقية الربح والخسارة والأصول الحاكمة في المعاملات والعلاقات فليست مما يعني الإستراتيجيات المادية في قليل ولا كثير.. أن الدول العلمانية لا تؤسس مباحثها ولا إستراتيجياتها على أي أصول دينية ولا على الأخلاق المرتبطة بالتوجيه الديني بل إن كان لابد من الالتزام الأخلاقي فعلى الأخلاق الإنسانية الفضفاضة التي يمكن التعامل معها عند الضرورة!! وبذات القدر فإن الدول القومية والتي نشأت على الرؤية القومية البحتة التي تؤسس علاقاتها مع الآخر على أساس قربه أو بعده من العنصر الذي تنتمي إليه.. هذه أيضاً لا تولي الجانب الديني قدراً كافياً من اهتمامها ولا تؤسس عليه خططاً ولا تبني عليه إستراتيجيات. إن الالتزام الأخلاقي في سلوك الفرد الشخصي أو سلوكه العام في الوظيفة الاجتماعية أو في الدور الإنتاجي الذي قد يطلع به.. هذا الالتزام المبني على العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى والمحكوم بمفهوم الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة والمبني على السعي لكسب رضا الله سبحانه وتعالى.. هذا الالتزام يغيب غياباً تاماً في نوع الإستراتيجيات المادية والعلمانية والقومية وغيرها من المنظومات التي لا تؤسس حياتها على الدين ولا على الأخلاق ولا تستشعر أية أهمية لمفهوم الغيب ومفهوم الإله والرب والثواب والعقاب. هذه الإستراتيجيات المحدودة النظر لا تخطط ولا تسعى لأكثر من النجاحات المادية المتعلقة بالمعاش.. حتى في جانب القيم والأخلاق هي لا تسعى ولا تجري إلا وراء القدر من الالتزام الأخلاقي في المعاملات بين الناس الذي يساعد في تحقيق المزيد من المكاسب المادية لكل مجموعة.. والتوازن في فرص الكسب المادي هو أقصى ما تتمناه بعض هذه الإستراتيجيات وهو السعادة الاجتماعية الحقيقية عندهم التي يبشرون بها المجموعات البشرية التي وضعت لها هذه الاستراتيجيات.. وهناك إستراتيجيات أخرى شمولية لا تؤمن بإتاحة فرص متساوية للكسب المادي للمجموعات السكانية بل عندها رؤية أخرى ومغايرة في توزيع الثروة والكسب المادي. الإسلام وحده هو الذي يؤسس نظرته الكلية على قيم الدين ويوسعها لتشمل حياة الإنسان في الدنيا والآخرة بل يجعل الآخرة عاملاً مهمًا وأساسياً في إنجاح السياسات والإستراتيجيات.. فالتمييز الأخلاقي في السلوك في المجتمعات الإسلامية الذي شهدته العصور والعهود الراقية لأهل الإسلام فإنما مرده إلى هذه الحقيقة الباهرة.. إن نظرة فاحصة إلى نماذج «الخطط الإستراتيجية» كما يسميها واضعوها أو الإستراتيجيات كما هو الأصل تكشف لك أنها جميعاً بعيدة كل البعد عن العمق الإسلامي الذي نؤسس عليه النظرة الكلية في الإسلام للشأن الإنسانيو العام والخاص.. أن المتفحص للخطط التي صدرت في عهد الإنقاذ تحت شعار الإستراتيجية مثل الإستراتيجية القومية الشاملة والإستراتيجية الربع قرنية وقبله الخطة الخمسية الأولى 2006 2011 ثم أخيراً الخطة الخمسية الثانية 2012 2016. أما الإستراتيجية القومية الشاملة فوُضعت في سني الإنقاذ الأولى وكانت خطة عشرية 1992 2002 وحتى نتبين بوضوح الظروف التي ولدت فيها الإستراتيجية القومية الشاملة لابد أن نذكر بأن الإنقاذ في أعوامها الأولى أبدت نهماً شديداً في عقد المؤتمرات وحشد الطاقات ولم تستثنِ صاحب فكر أو صاحب قلم أو صاحب مذهب أو صاحب حزب إلاّ ودعته لهذه المؤتمرات.. إلاّ من أبى.. ففي عام واحد عقدت الإنقاذ ما يزيد على العشرة مؤتمرات ما بين اقتصادي واجتماعي وحواري وقضايا التعليم وقضايا الشباب والعمال وهلم جراً.. وأول أخطاء الإنقاذ في تفكيرها الاستراتيجي كان هو هذا التوسع غير المبرر وغير المدروس في حشد المدارس الفكرية والمدارس السياسية على صعيد واحد ظناً منها أن السلطة ربما تكون كابحاً لهذه المجموعات لتزن وتقف على الحد الأدنى من المطلوبات الوطنية.. لعل المشكلة الأساسية والخطأ الفادح الذي لم تنتبه له الإنقاذ أن الوجه الحقيقي للإنقاذ لم يكن قد عُرف حتى ذلك الحين فلم يكن متوقعاً لهؤلاء المحشودين أن يقرأوا بظهر الغيب أن الإنقاذ ذات توجه إسلامي أصولي. وهاك ما قاله مؤلف كتاب «التخطيط الإستراتيجي في السودان». ما من شك في أن القدس التي استولت على السلطة في الثلاثين من يونيو 1989م صاحبة فكر شامل في إدارة الحياة وقمين بها وجديرة بان تكتب استراتيجية في مطابخها الداخلية إلاّ أنها أنتهجت نهجاً قومياً ليس فقط لاستكمال ما عندها من علم ومعرفة وخبرة بعلم ومعرفة وخبرة أبناء السودان كافة» إلى آخر ما قالاه في الكتاب المذكور أعلاه. ولعل الإنقاذ كانت فعلاً تحاول إطفاء الحرائق التي ظلت مشتعلة من أزمان بعيدة. والأغرب من ذلك أن الإنقاذ في إعدادها للمؤتمر الإستراتيجي القومي الأول حشدت أكثر من ستمائة وألف مشارك من تخصصات وخبرات مختلفة من داخل السودان وخارج السودان، وهؤلاء شكلوا اثني عشر قطاعاً واثنتين وخمسين لجنة فرعية وبعيداً عن التفصيل الممل نلاحظ أن أهداف الإستراتيجية القومية الشاملة «العشرية» كانت هكذا :«1» أهداف اجتماعية . «2» اهداف سياسية «3» أهداف عسكرية «4» أهداف سياسية خارجية «5» أهداف اقتصادية «6» أهداف علمية تقنية. وإنه لمن المؤسف أن نقول إن الدغمسة بدأت في الإنقاذ منذ العام 1994م حيث جاء في تحرير الأهداف السياسية المذكورة أعلاه ما يلي: بناء خيارات الثورة في الشريعة والنظام الأساسي الذي يتسع لكل اختلافات الفكر والرأي والعقائد الدينية بعيداً عن استلاب الإرادة أو تزويرها وأثارة نوازع الفرقة والشتات والفتن. وتستمر الدغمسة والايهام في العلاقات الخارجية: «تنبع قوي السوداني من أعماق انتماءاته العرقية والثقافية وروابطه التاريخية وهو وطن أمة من أمم العالم الثالث..» إلى آخر ما ورد من تخليط وخروج من الأصول الحاكمة للإستراتيجية الإسلامية إلى أصول حاكمة أقرب إلى الأصول العلمانية أو القومية .. وهما وجهان لعملة واحدة.. أنه لمن العسير جداً تقديم نقد تفصيلي لهذه الاستراتيجية العشرية التي انتهت عام 2002م لتبدأ بعدها ربع القرنية 2003م 2028 ولكن الذي يلاحظه الدارس أن هذه الإستراتيجيات جميعًا جاءت مبتوتة الصلة بالموروث الإسلامي إلاّ في بعض الإشارات الخجولة وبعض الشعارات الفضفاضة التي ربما يقبلها حتى العلمانيون. أما تلك الروح المحركة والفاعلة والضابطة والحاكمة المستمدة من الصلة الروحية بين العبد وربه والتي تتجلى في الأخلاق والتجرد والزهد والتقوى وتضبط سلوك المسلم حتى عندما يكون خالياً مع نفسه دون رقيب أو حسيب.. فقد كانت غائبة تماماً عن الإستراتيجية. وأهل الإنقاذ كانوا يرددون دون وعي مقولة حسن الترابي «هذا الأمر لمن صدق وليس لمن سبق» على فرضية أنه ما سبق إلا كل منافق.. وما جاء آخرًا إلا كل صادق.. وهذا يعارض نصاً قرآنياً حاكمًا «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار» ونصاً آخر «والسابقون السابقون أولئك المقربون» والسابقون أقرب وأحرى بالصدق من الذين جاءوا بعدهم لأنه سبق في الفهم والاختبار وسبق في العطاء والجهاد.. لذلك جاءت إستراتيجيات د. تاج السر محجوب خالية من الروح والحياة وأقرب ما تكون إلى معجزات مسيلمة.