باحث وداعية يخطئ كثير من الناس عندما يغفل عن أن حسن التعامل المطلوب مع الناس والمأمور به في نحو قول الله تعالى: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن»، وقوله سبحانه: «وقولوا للناس حسناً»، وغيرها من النصوص يتناول الكبار والصغار، ويشمل الأولاد! وهذه الغفلة تنبئ عن سوء نظرة للصغار، فكأن الصغار ليسوا بناس عند بعض الناس! ومن دلائل ذلك سماعك في حديث كثير منهم الموجه إلى الأطفال: هُسْ، وبَس.. ونحوها من الألفاظ التي كانت العرب تطلقها للحيوانات، فهُس وهِس بالضم والكسر كلمة زجر للشاة، وقالوا: بَس لفظ تستعمله العرب في زجر الدواب، ومنهم من لا يبالي إذا شبه الصغار بالحيوانات صراحةً، فيقول لابنه أو بنته عند أدنى خطأ: يا كذا، ويا كيت ! وبعض الناس قد يكون أحسن حالاً من هؤلاء، فلا يكاد يجرح الصغير إذا خاطبه بشيء من تلك الألفاظ الظاهرة القبح أو المستترة، لكنه لا يراعي حسن الخلق معه، ولا يعبأ بتحسين اللفظ في خطابه، ولا يعتني بخطابه الخطاب المؤدب الراقي، فأوامره ونواهيه أشبه ما تكون بالتعليمات العسكرية: افعل كذا، ولا تفعل كذا، دون عناية بتحسين اللفظ أو تعليل طلب الفعل أو الترك، بل ربما أردف الأمر بعبارة تهديد ووعيد: افعل كذا وإلاّ..! ولا يكاد كثير من الأطفال يسمع من والديه: لو سمحت افعل كذا أو اترك كيت.. عن إذنك سوف أفعل كذا.. ممكن تفعل هذا؟.. هلا صنعت كذا؟. ثم مع هذا الأسلوب في التعامل مع الصغير وفي خطابه قلّ أن يجد الصغير من يتأسى به في تحسين عباراته داخل مجتمعه، ولو تأملت وجدت بعض الأطفال في مجتمعات أخرى ينشأ عندهم نوع من التهذيب الاجتماعي الذي يفرض نوعاً من تحسين الألفاظ في الخطاب، ولعل السبب نشوء الطفل وهو يرى نمطاً من الخطاب المهذب شائعاً في مجتمعه، فبعض الأجناس مثلاً قل أن يخاطب الرجلُ مَنْ هو فوقَه، بنحو قولنا: إنت ما قلت كذا! لكن يقولون: حضرتك قلت كذا! وربما صاغ الجملة كأنها استفهام والمؤدى واحد مع فارق التهذيب. إذاً فلا عجب أن ينشأ الناشئ الذي لم يسمع خطاباً مهذباً قد توجه إليه يوماً ما، ولم يره في تعاملات ذويه مع غيرهم في كثير من مجتمعاتنا على سجية قبيحة في التعامل والخطاب تعلمها من أبويه ومن مجتمعه، فقد قيل: وينشأ ناشئ الفتيان مِنّا على ما كان عوَّده أبوه! غير أن العَجَبَ أن يقع عليه الظلم مرة أخرى فيقال عن الطفل الضَّحِيِّةِ: هو سيءُ الخُلُقِ، أو غيرُ مهذبٍ، ولاسيما في سنواته الأولى، فليت شعري ما ذنبه؟ وإنما الذنب ذنب من لقَّنَه! أما الطفل فقد يكون بريئاً مُجِلاًّ للكبير، ولكنه لا يملك مفردات للتعبير! أُشبِّهه بحال ذلك الأعجمي الذي ربما أسديتَ إليه معروفاً، فيكبره حتى ترى الدموع تترقرق من عينيه، ثم لا يملك أن يُعَبِّر، وإن عبر فقد يأتي تعبيره من جنس تعبير تلك العجوز الشرق آسيوية التي أسدت إليها إحداهن معروفاً، فلم تسعفها المفردات التي سمعتها إلاّ أن تقول للمرأة: »إنت في شاطر ولد«!! والدموع تترقرق من عينيها! وهكذا إذا سمعتَ عبارةَ امتنانٍ نابيةٍ! من صغير، فاعذره ولُمْ مجتمعه الذي ما علمه ولا لقنه! أخا الإسلام! لتكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.. إن الناظر في هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، المتتبعَ لسيرته، لا يخفى عليه أدبه مع الأطفال، وتحسينُ لفظه حتى مع الصغار، يقول أنسٌ رضي الله تعالى عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أُفاً قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ وكان من هديه صلى الله عليه وسلم التعليل للصغير عند الأمر أو النهي، ومن ذلك قوله للحسن بن علي رضي الله عنهما عندما أخذ تمرة من تمر الصدقة: «كخ كخ! ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟». وكان عليه الصلاة والسلام ربما كنّى الصبي، والتكنية عند العرب نوع تكريم للمخاطب، كما قيل: أُكَنِّيه حين أناديه لأكرمه ولا أُلَقُِّبه والسوأةُ اللَّقبا وقد يعذر الناس في ترك تَكْنِيَةِ الصغار، ولكن ما هو عذرهم في تلقيب بعضهم الألقاب القبيحة التي ربما عُيِّر بها الطفل عُمُرَه؟! لقد كان من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم تكريم الصغار بالتّكنِيَةِ، فقد عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باب الكنية للصبي، وأورد فيه حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير قال أحسبه فَطِيم، وكان إذا جاء قال: »يا أبا عمير! ما فعل النغير؟«، فانظر إلى أدبه وملاطفته لذلك الفطيم! ولم يكن ذلك شأن البنين بل كانوا يكنون البنات أيضاً، ففي الصحيح من حديث أَمَة بنتِ خالد بن سعيد بن العاص بن أُمَيَّة القرشية رضي الله عنها، أنها قالت: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء، قال: »من ترون نكسوها هذه الخميصة؟«. فأسكت القوم، قال: »ائتوني بأم خالد«، فأُتي بي النبيَ صلى الله عليه وسلم فألبسنيها بيده، وقال: »أبلي وأخلقي«. مرتين، فجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إليّ ويقول: »يا أم خالد هذا سنا«، والسنا بلسان الحبشة الحسن. ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على حسن خلقه مع الأطفال، وتحسين ألفاظه حتى مع الصغار كثيرة وقد كانت تلك نتفٌ تبيِّن المقصود. وكذا رعايته صلى الله عليه وسلم لهم بفعله، ومن ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عثر بعتبة الباب، فشُجَّ في وجهه، فجعل يمص عنه الدم ويمجه، ثم قال: «لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أُنفِّقه» ومن تقديره صلى الله عليه وسلم للصغار أنه كان إذا مر على الصبيان وهم يلعبون فربما سلَّم عليهم.. أما أصحاب الصرامة والفخامة «الصارّين» من الآباء والمربين فيسعدهم فرار الصغار إذا هم قدموا فزعين! أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان له مع الصغار شأن آخر.. كان عليه الصلاة والسلام ربما أجلس الغلام بجواره عن يمينه، فإذا أراد أن يسقي القوم لم يتخطاه في البدء به حتى يستأذنه، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه المتفق عليه قال: أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: »يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟«. فقال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله. فأعطاه إياه. فيا معشر المربيات والمربين، بهذه الأخلاق وهذا التقدير والاحترام للصغير قبل الكبير نشأ ذلك الجيل فعرف للكبير قدره، وللصغير حقه، ولا غرو فقد تلقى الأخلاق الكريمة منذ نعومة أظافره، نشأ وهو يسمع الطيب من القول، فرسخ فيه وانطلق به لسانه، شب وهو يرى احترام من فوقه له وإعطاءه حقَّه وزيادة، فاحترم حقَّ من دونه فكيف بمن فوقه. أما الذي تتفتح عيناه على الدنيا وهو يسمع: يا جاهل.. يا بليد.. يا «كذا»! فلا عجب أن تكون أول كلمة ينطق بها يا «كذا»! وقد سمعت بعض من تعلم المشي قريباً يهتف ببعض أسماء الحيوانات في خطابه.. فتذكرت قول القائل: هذا ما جناه أبي عليَّ! غير أنه قال: ولم أجن على أحد، أما هذا فقد جنى على أناس!! والمصيبة الكبرى أن ترى والده بعد ذلك فرحاً مسروراً فقد نطق الغلام! نعوذ بالله من تبلد الأحاسيس والأحلام، ومن سيء الأفعال والكلام!