واحدة من أهم المحاكم الجنائية بامدرمان وبالسودان عموماً محكمة جنايات السوق وحماية وترقية البيئة التي تقع في قلب سوق أمدرمان وهي ما يتعارف عليها باسم محكمة النظام العام سابقاً، تلك المحكمة التي أقعدت الأرض وما عليها، فقط لأن غالبية القضايا التي تنظر فيها بحكم الاختصاص تتعلق بجرائم الحدود وقضايا السكر والميسر والدعارة، أي مختصة بالجرائم المجتمعية التي يحاربها ناشطو العلمانية ودعاة التحرر. قادتنا خطى لتلك المحكمة التي يجلس على رئاستها قاضٍ يتمتع بالحكمة والورع مثلما يلم ببواطن القانون ومقاصد الشريعة، يقف أمامه «16» متهماً تعاطوا الخمور في أماكن مختلفة وبعضهم تم القبض عليه في الشارع العام وهو يترنح ثملاً في الطرقات، أشكالهم تدل على ما وقعوا فيه من معاقرة أم الكبائر، بعضهم مهترئ الملابس وبعضهم يدعي إصابته بالصرع وآخر لا يستطيع الوقوف على رجيله، بينهم شباب في مقتبل العمر وآخرون من كبار السن، نظر إليهم القاضي إسماعيل محمد موسى وطلب منهم الإجابة عن سؤال واحد دون تفاصيل: شربت أم لا؟ وبدأ المتهم الأول في الإجابة عن السؤال وكأنه لم يفهم توجيه المحكمة فقال: والله يا مولانا أنا ما شربت وتبت إلى الله بس شربت عرقي وما عارفو جابو لينا في حفاظة قايلو شاي ومن غير قصد شربت!!! أما المتهم الثاني فقال: أنا ما شربت يا مولانا لكن بخشمي ريحة عرقي!! فسأله القاضي بسخرية يعني دي كيف اتريحت بيهو ولاّ شنو؟ فقال أنا عندي ضرس مؤلمني ومضمضت بالخمر ولم أشربها، وآخر يقول إنه لم يشرب إلا كباية واحدة فقط، وآخر يقول إنه مصاب بالايرقان وحبوبته جاءته بالمريسة لتقوية دمه الضعيف، بينما يتعذر آخر بأنه مصاب بالصرعة وأخبروه بأن الخمر تساعد في العلاج، وهكذا كانت اعترافات المتهمين بأعذار على شاكلة ما جاء من إفادات، نظر القاضي لتلك الوجوه الكالحة ووضع قلمه على المنضدة وقبل إصدار حكمه قدم كلمات لامست أوتارًا حساسة عند المتهمين الذين يجهلون عظم ذنبهم حيث كان من بين المتهمين شاب فقد التركيز العقلي من تأثير الخمر وصار مهزوز البنية، غير قادر على تركيب الجمل المفيدة فقال لهم إن مصير فلان هذا هو مصيركم إن لم تقلعوا عن الخمر، تعهد الجميع بالإقلاع بعد أن نالوا جزاءهم القانوني حيث أمرت المحكمة بجلدهم «40» جلدة والغرامة «150» جنيهًا والسجن لمدة شهر لبعضهم والآخر شهرين. * أفق أخير هذه المحكمة وبهذه المواصفات والاختصاصات تحتاج لمبانٍ تليق بالمعاني.