يتساءل كثير من خصوم الحركة الإسلامية والمتشككون في فكرها وموقفها السياسي عن حقيقة موقفها من الديمقراطية. ولا يقتصر الأمر على خصوم الحركة بل إن بعض الإسلاميين من غير أعضاء الحركة الإسلامية ينظرون للديمقراطية بوصفها تدبيرًا سياسيًا غربيًا لا يتوافق توافقاً كاملاً مع المبادئ الإسلامية. كذلك فإن بعض أبناء الحركة الإسلامية تساورهم الشكوك حول مدى موافقة النظام السياسي الديمقراطي الغربي الطابع مع المُثل والمبادئ السياسية الإسلامية. بيد أن الحركة الإسلامية في موقفها الفكري والرسمي قد قبلت بالديمقراطية إطاراً للنظم السياسية في السودان. ورحبت بالتعامل مع الجميع بصدق ونية سليمة في هذا الإطار. ذلك أن الديمقراطية ليست سترة جاهزة التفصيل، بل هي مجموعة مبادئ وقيم ونظم وأطر يسعنا أن نختار منها ما يلائم ثقافتنا ومبادئنا الفكرية والسياسية دون أن نخرج عن إطارها العام. فالديمقراطية ليست عقيدة لكي نؤمن بها أو نكفر بها، بل هى مبادئ فكرية قد نشارك الآخرين في القناعة بها أو نخالفهم في بعض مفاهيمها. ونعرض التوضيح فإن مفهوم سيادة الشعب الذي هو الإطار المرجعي للفكر الديمقراطي مقبول لدينا ولكن في إطار ما نؤمن به من عقيدة ومبادئ سياسية. فسيادة الشعب عند الغربيين سيادة مطلقة حتى لو خالفت القطعي من القيم الدينية التي يؤمن بها غالب شعوبهم. بينما فهمنا لسيادة الشعب يندرج تحت مفهوم الحاكمية. فالحاكمية المطلقة لله بالحكم والأمر المطلق لله ولكن الشعب هو المكلف من خلال علمائه وفقهائه وزعمائه وأمرائه وعامته أن يتمثل القطعي من الأحكام وأن يؤول ويفسر ما يحتاج إلى تفسير أو تفصيل من تلك الأحكام أو أن يستنبط من أصولها وقواعدها العامة وهداية مقاصدها ما يلائم نهج الشريعة العامة. لذلك إذا جاز للبرلمان الهولندي أن يجيز تشريعاً يتيح زواج المثليين رغم مخالفة ذلك لهداية الدين المسيحي الذي يؤمن به غالبية الشعب لأن البرلمان هو المعبر عن سيادة الشعب فإن ذلك لا يجوز في فهمنا لمفهوم سيادة الشعب. فلا يجوز لحاكم أو لمجلس تشريعي أن يشرع تشريعاً يناقض المعلوم بالضرورة من الدين أو يخالف إجماع المسلمين الذي لا يُعلم له مخالف. وهنالك مبادئ ديمقراطية نقبلها كما هي لأنها تطابق مبادئ نؤمن بها مثل مبدأ المحاسبةAccentuation . فالمسؤولية تقتضي المحاسبة فكل راعٍ مسؤولٍ عن رعيته أي هو محاسب عليها. والحساب حسابان حساب أمام من ولاه وهو الشعب أو من ينوب عنه إذا كان رئيساً للجمهورية منتخباً مباشرة من الشعب أو بواسطة البرلمان، وحساب أمام الله يوم الحساب. وكل مسؤول محاسب وقد قالها عمر رضي الله عنه «إذا أخطأت فقوموني» لم يقل فصوبوني فهو يعطي الشعب الحق في محاسبته بأطْره على الحق أطْراً وليس بمجرد تنبيهه لوجه الحق من المسألة التي أخطأ فيها. وكذلك فإن المبدأ الذي يسمى بالشفافية والعلانية اليوم هو ذات مبدأ المناصحة أو النصح من الأئمة للعامة ومن العامة للأئمة. والنصح هو إظهار الحق الذي نؤمن به وإبلاغه للناس. ومطلوب من الحاكم أن يصارح شعبه بالحقائق وأن يعرفهم بالوقائع والنوازل. وأن يكشف لهم عن نواياه وسياساته تجاه جميع الأمور. كذلك من واجب الشعب بعد الإحاطة بالحقائق أن يُظهر ما يراه مطابقاً للحق والصواب ومحققاً للنجاعة والصلاح للحاكم رضي بذلك أم أبى. والناصح الشجاع إما حامل لشهادة الكلمة أو شهيد لها إذا دفع حياته ثمناً لذلك. ولذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيد الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطانٍ جائر فقتله». فشهادة الكلمة مثل شهادة الدم سواءً بسواء. ولا يجوز لإنسان أن يكتم الشهادة لأن من يكتمها آثمٌ قلبه. ولا يجوز لسلطان أن يكتم الحقيقة عن شعبه إلا أن يكون ذلك ضرورة من ضرورات تحقيق المصلحة الظاهرة التي لا لبس فيها. وتحت باب النصيحة وواجب الأمة في الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر والدعوة لكل خير تقع حرية التعبير المسؤول بصورها المختلفة. سواء كان تعبيراً مباشراً أو نشراً أو إعلاماً أو صحافة أو أي وجه من وجوه إظهار الحقيقة أو التعبير عن الرأي . فيما نراه منكراً تجب إزالته أو حقاً يجب إحقاقه أو خيراً يُرجى تفعيله. بيد أن حرية التعبير لا تعني ما يشاع في تفسيرها في الثقافة الغربية التي تبيح التجديف في عقائد الناس والإساءة إلى ما يؤمنون به. وكما تعني عندهم حرية البذاءة والمجاهرة بوجوه الفسوق والعصيان جميعاً. كما تتيح الخوض في أعراض الأشخاص والهيئات ولا تستنكف أن تشيع الفاحشة في المجتمع. فتلك حرية نحن منها براء. ولا نراها حرية آمرة بالمعروف بل هي حرية آمرة بالمنكر هدامة للقيم والتماسك الاجتماعي. وأما مبدأ التمييز بين السلطات لسد ذريعة الاستبداد فمبدأ مقبول لدى الحركة الإسلامية. ونحن لا نقول الفصل بين السلطات بل التمييز بينها. وهذا ما انتهى إليه الفكر السياسي مؤخراً. فهنالك قدر مقبول من التداخل والتكامل الذي لا يكرس للاستبداد. والنظام الرئاسى بما فيه من سلطات واسعة للرئيس بعضها تشريعي وبعضها سيادي وبعضها تنفيذي مقبول لدينا. ولكنه ليس بالضرورة الخيار الأمثل في كل زمان. وأنموذج هذا النظام في عالمنا المعاصر هي الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولكن النظام الرئاسي المُعدل الذي هو شراكة بين الرئاسة والبرلمان في الأمور التشريعية وفي نصب السلطة التنفيذية ومحاسبتها قد يكون خياراً أكثر مناسبة في مناخ يُخشى فيه من تكريس السلطات في يد شخص واحد مهما عُظمت فيه الثقة. وكذلك فإن النظام البرلماني نظام مقبول في ظرف يناسبه. وبخاصة إذا كان النظام السياسي مستقراً ولا يُخشى من زعازع الصراعات البرلمانية المضعفة للحكومات. لكن في كل الأحوال لابد من توزيع الصلاحيات بين السلطات بما يحقق التوازن والتكابح المانع لاستبداد مؤسسة أو فرد من الأفراد. ويحسُن في بلاد واسعة الرقعة مثل بلادنا أن يعزز تقسيم السطات رأسياً بتقسيمها أفقياً من خلال الحكم الفيدرالي والحكم المحلي. وذلك بتفويض السطات أو تخويلها من خلال الدستور جغرافياً بما يعزز الحكم الشعبي في إطار وحدة الشعب والدولة. والحركة الإسلامية كانت هي الرائدة للدعوة إلى الفيدرالية والرائدة في تنفيذها على أرض الواقع.