(إن بعض الناس يشعرون بأن قدرهم أن يكتبوا وهؤلاء يضحون بأي شيء في سبيل الكتابة، أنا لا أريد أن أضحي..! إنني لا أكتب ليس؛ لأنه لا يوجد لدي ما أودّ أن أقوله ولكن لأنني لا أريد أن أستسلم تمامًا لساحرات معبد الفن الشريرات، سواء كتابة أو موسيقا أو تشكيل، كل فن له حارسات شريرات فإذا وقع في براثنها يتعب جدًا ونحن نعرف من قصص حياة الشعراء والفنانين أنهم انتحروا أو أصبح بعضهم سكيرًا أو مدمنًا، وأنا لا أريد أن أكون كذلك لهذا أراوغهن وأقترب أحيانًا من هذا المعبد حتى لا ألاقي نفس المصير).. كانت تلك كلمات الروائي الطيب صالح القليلة التي نثرها على مسامع حضور عقب تسلمه جائزة الملتقى الثالث للرواية العربية في مصر.. وعاد مرددًا إجابة عن تساؤل إحدى الصحفيات المصريات عن سر الإقلال والبعد عن كتابة الرواية لثلاثين عامًا ثم العودة بالمنسي الذي اعتبر بشكل ما خليطًا بين الرواية والسيرة..! وما ذكره أديبنا الراحل يعيدنا إلى دائرة الإبداع والجنون التي لا ينتهي الجدل فيها ولا الكتابات والدراسات التي تخرج كل يوم برأي وتفسير.. والروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، يرى يوسا أن مسيرة الكتابة والإبداع ليست بالمسيرة السهلة، فهي متعبة ومقلقة وفي حاجة إلى العمل الجاد الدؤوب في القراءة والدراسة والاطلاع، لكنها في الوقت نفسه عملية ممتعة؛ لأنها تصل بالإنسان إلى الانسجام التام مع نفسه وإلى حالة من التوازنات النفسية الداخلية التي يستشعرها في أعماقه كلما حقق جديداً على الصعيد الإبداعي! وهذه نظرة إيجابية بعيدة عن قلق أديبنا العالمي.. وغير بعيدة عن دائرة الجدل السابقة فبينما رسخ لدى الجميع أن التشكيلي فان خوخ كان به مس من الجنون لدرجة أنه قطع أذنه وقدَّمها لمحبوبته.. وانتحار همنغواي واكتئاب كافكا الكاتب التشيكي الذي كتب بالألمانية ولقب برائد الكتابة الكابوسية والموسيقي تشايكوفسكي وغرابة سلفادور دالي والاسباني فرانسيسكو غويا!.. ولا تنفك النتائج والاستنتاجات تتوالى وفي عام «1990م» وبمناسبة مرور «100» عام على رحيل فان غوخ ينشر أحد الباحثين الأمريكيين دراسة يؤكد فيها أن حادثة قطع فان غوخ لأذنه لم تكن إلا لإصابته بالتهاب في الأذن فأراد أن يتخلص من ألمها، ما أثار ردة فعل عنيفة عند الناس ممن رسخت في ذهنهم صورة غوخ المبدع الذي قطع أذنه وأهداها لفتاة يحبها؛ لأنه كان يعيش حالة جنون إبداعي وقلق نفسي دائم، وهذا بالفعل ما يظهر من خلال لوحاته وضربات ريشته.. ويعتبر أحد الباحثين أن دالي افتعل غرابة الأطوار طلباً للشهرة وأن من يستعرض مراحل حياته يجد ذلك جليًا، ويقال عن غويا إنه انتقل من حياته الأنيقة وطريقته الواقعية في الرسم إلى شيء من الهذيان الفني والنفسي الذي ساد لوحاته أخيراً، نتيجة تأثره بمحاكم التفتيش المقامة في أوربا ذاك الزمن..! وأخرى وأخرى ودراسات وبحوث علم نفس واجتماع و.. و.. وجميعها لا تثبت إلا أن ذلك المبدع إنسان؛ يصيبه القلق والخوف والانهيار ويتأثر بحياته الاجتماعية والنفسية والعاطفية والفرق أن الله وهبه أداة تعبير وتفريغ عالية الحس متاحة للجميع من لحظة ابتعاثها وإلى أبد الأبدين ..! لكم التحية..