لأن حدث المناظرة بين مرشحي الرئاسة المصرية تاريخي واستثنائي بامتياز، فإنه يظل بحاجة إلى تحقيق وتدقيق فيما قيل وما لم يقل ليس فقط لكي نستوعب ونتفهم، ولكن أيضًا لكي نستفيد ونتعلم. 1 لا أستطيع قبل أى كلام فى الموضوع أن أتجاهل أمرين، الأول أنها التجربة الأولى فى التاريخ المصرى فى عام 2007 حدثت مناظرة بين مرشحى الرئاسة فى موريتانيا، التى يقف فيها اثنان من مرشحى الرئاسة أمام بعضهما البعض لكى يعرضا نفسيهما على الرأى العام. صحيح أن تراثنا العربى حافل بمناظرات أهل العلم، ولهم فى ذلك كتابات غنية، أذكر منها ما سجله الإمام أبوحامد الغزالى متعلقًا بآداب المناظرة، فى مؤلفه الشهير «احياء علوم الدين». وتحدث فيه عن مناظرات الفقهاء والمقلدين من الشافعية والأحناف بوجه أخص، وحاول أن يبدد التلبيس فى تشبيه المناظرات بمشاورات الصحابة، وأن يبين آفات المناظرة وما يتولد عنها من مهلكات الأخلاق، لأنها تدفع أطرافها إلى تتبع عورات بعضهم البعض وإشهار نقائصهم بالحق أو بالباطل، التماسًا للانتصار فى الرأى وكسبًا للجاه والرياسة الدنيوية. لم يعرف تاريخنا مناظرات أهل السياسة. خصوصًا ما تعلق منها بشأن الرئاسة. ربما فى أغلب الأحيان لأن تقاليد الاستبداد فى بلادنا أشاعت بين الناس أن الرئاسة قدر مكتوب لأناس بذواتهم، لا شأن لها باختيار الناس أو قرارهم. ولأننا حديثو عهد بالتجربة، فإن ما يعتريها من نقائص وثغرات تصبح أمرًا طبيعيًا ينبغى أن نترفق به ونحتمله. الأمر الثانى أن الذين قاموا بالتجربة من الإعلاميين والإعلاميات يستحقون التحية والتقدير، إذ أتاحوا لنا أن نعيش تلك اللحظات النادرة، التى نشاهد فيها رئيسًا أو مشروع رئيس يؤخذ من كلامه ويرد ولا يستقبل كلامه بحسبانه تنزيلاً محصنًا لا ينطق فيه صاحبه عن الهوى. وأى نقد للجهد الذى بذله أولئك الزملاء ينبغى ألا ينتقص مما قدموه، ولكنه يحاول أن يكمله ليحقق المراد من المناظرة بصورة أفضل وأوفى. 2 الانطباع الأولي عن الأسئلة أن أغلبها جاء مثيرًا للفضول بأكثر مما كان كاشفًا عن السياسات ومثيرًا للعقول. أما الانطباع الثانى أنها ركزت بدرجة عالية على الشأن الداخلى، وبدت متأثرة بحالة الانكفاء التى يعانى منها الإعلام المصرى خصوصًا بعد الثورة. والمسألتان بحاجة إلى بعض الشرح والإيضاح. لقد بدت الأسئلة وكأنها ورقة امتحان مدرسي، ركزت على شخصية كل مرشح بأكثر مما ركزت على أفكاره وسياساته إزاء القضايا الكلية، ناهيك عن أنها تجاهلت بعض القضايا الحيوية فى حين ألقت على المرشحين أسئلة حول الراتب الشهرى والأزمة المالية والحالة الصحية والامتيازات المتوقعة، والتدخل فى اختيار الوزراء وكيفية تشكيل لجنة الدستور والموقف من أحداث العباسية والتعامل مع الإضرابات الفئوية.. إلخ. مثل هذه الأسئلة الأخيرة قد تقدم الشخص ولكنها لا تسمح لنا بأن نتعرف على أفكاره وتعامل برنامجه مع القضايا الكلية التى ترتبط بالمصالح العليا للوطن. إن قضية الاستقلال الوطنى لم تأخذ حقها فى الحوار، رغم أنها تشكل جوهر السياسة الخارجية المصرية، ومعروف أن استقلال مصر منقوص على الصعيدين الإقليمى والدولى. فدورها فى القرار العربى محدود للغاية. وليس سرًا أن الجامعة العربية تديرها فى حقيقة الأمر دولتان هما السعودية وقطر. كذلك فإن العلاقة بين مصر وكل من إسرائيل والولاياتالمتحدة، تتعامل معها مصر بحسبانها الطرف الأضعف الذى يتلقى بأكثر مما يقرر أو يبادر. واختزال العلاقة مع إسرائيل فى التساؤل عما إذا كانت عدوًا إستراتيجيًا يعد ابتسارًا واجتزاء للملف الأساسى المتمثل فى استقلال الإرادة والاهتداء بالمصالح الوطنية العليا فى رسم السياسات وتحديد طبيعة العلاقات الخارجية. لم نعرف شيئًا عن موقف المرشحين إزاء التجمعات الإقليمية العربية، المغاربية أو الخليجية. ولا إزاء الجارتين السودان وليبيا، ولا إزاء القضية الفلسطينية التى تحل ذكرى نكبتها اليوم «الثلاثاء 15 مايو». ولا إزاء الدولتين الكبيرتين تركيا وإيران.. «ثم التعرض لإيران فى سؤال عابر». حتى الشأن الداخلى، فإن ملفات عديدة لم يتم التطرق إليها. لم نسمع شيئًا عن قضية مصيرية مثل التنمية فى مصر، مرتكزاتها ومقاصدها. لم يتطرق أحد إلى كيفية استثمار الطاقات البشرية الكبيرة فى البلد وكيفية توظيفها للتأكيد على التنمية الذاتية، التى توظف خبرات البشر وإمكانيات البلد المتوفرة لتكون الأساس فى تحقيق النهضة المرجوة، قبل أى لجوء إلى الاستدانة والاقتراض من الخارج، خصوصًا أن انطلاقة الداخل تشكل أكبر عنصر لجذب استثمارات الخارج، وإمكانياتها بلا حدود فى مجالات الزراعة والصناعة والسياحة. لم تتعرض المناقشات ولم يلق سؤال حول قضية البطالة المتفاقمة، والتى يتحدث عدد غير قليل من الخبراء عن أنها وصلت فى صعيد مصر إلى 50% من السكان، الأمر الذى يجعل من البطالة لغمًا داخليًا شديد الانفجار. فآثارها الاجتماعية خطيرة والتداعيات التى تترتب عليها مخيفة، حتى وجدنا شبابًا باتوا يفضلون المغامرة باحتمال الموت فى البحر لكى يصلوا إلى شواطئ أوروبا، بدلاً من أن يعيشوا بلا أمل فى مصر. ويظل مستغربًا ألا يتطرق الحديث عن أولئك الملايين من البشر، الذين هم ثروة حقيقية إذا أحسن استثمارها، فى حين اعتنت الأسئلة بمسألة كشوف العذرية «رغم أهميتها» والتعامل مع الموضوع القانونى للإخوان. قضية البيئة الملوثة فى مصر تم تجاهلها أيضًا، رغم ما تمثله من أهمية بالغة بالنسبة لقضيتى التنمية والصحة العامة، ناهيك عن أنها أصبحت تحتل موقعًا متقدمًا فى تحديات العصر التى تحتشد لأجلها الدول ولا تتوقف المؤتمرات التى تُعقد لمواجهتها كل حين. 3 تغييب مثل هذه القضايا الحيوية أضعف موضوعية الحوار، الأمر الذى لم يتح لنا أن نتعرف بشكل جاد على سياسات وبرامج المرشحين إزاءها. من ناحية أخرى فإن الإجابات التى قُدمت على الأسئلة الموجهة حققت اتفاقًا حول تمثيل الجميع فى لجنة وضع الدستور وحول فرض الضرائب التصاعدية والالتزام بالحد الأدنى والأعلى للأجور. وذلك شىء طيب لا ريب، لكن الأمر لم يخلُ من ملاحظات سلبية أخرى، منها على سبيل المثال: أن المرشحين تبادلا الاتهامات الشخصية، إذ عمد السيد عمرو موسى إلى تخويف المشاهدين من الدكتور أبوالفتوح باعتباره إخوانيًا سابقًا، فما كان من الأخير إلا أن رد عليه مذكرًا بانتمائه إلى نظام مبارك، الأمر الذى يصنفه ضمن الفلول. وإطلاق هذا التراشق لم يكن فى صالح عمرو موسى، لأنه حين رمى أبوالفتوح بأنه «إخوانجى» فإنه استخدم فزاعة نظام مبارك، فى حين أن ذلك الاتهام لم يعد مشينًا فى الوقت الحاضر، إلا أن تصنيف عمرو موسى ضمن الفلول مما يشينه ويسىء إليه بعد الثورة. وفى كل الأحوال فقد بدا عمرو موسي هاربًا من ماضيه ومنكرًا له، أما أبوالفتوح فقد بدا معتزًا بماضيه الذى اعتبره رصيدًا له فى انخراطه مع الثورة.. حاول عمرو موسى وهو يخوف من إسلامية أبوالفتوح أن يكرس إقصاء التيار الإسلامى، فى حين أن أبوالفتوح حرص على إقامة المصالحة بين التوجه الإسلامى والديمقراطية. من ثم فإن الأول قدم نفسه باعتباره رئيسًا لبعض المصريين، فى حين أن الثانى أراد أن يقنعنا بأنه رئيس لكل المصريين. حين سئل الاثنان عن مبرر انتخاب كل منهما، قال موسى إنه تبوأ مناصب عدة وخبراته كثيرة، وأن مصر فى أزمة الآن وبحاجة إلى رجل دولة «مثله» فاهم للعالم ومدرك للظروف المحيطة، ولم يحدثنا عن السياسة التى سيتبعها فى تعامله فى ذلك العالم الخارجى، أما أبو الفتوح فقد اعتبر نفسه رمزًا لاصطفاف الجماعة الوطنية، حيث يشترك فى تأييده الليبراليون واليساريون والإسلاميون. فبدا من الإجابتين أن الأول يصوب نظره نحو الدولة والثاني يصوبه نحو المجتمع. استلفت نظر كثيرين نفور عمرو موسى من الأغلبية التى صوتت لصالح التعديلات الدستورية، وحين اعتبر أن الذين قالوا «لا» هم الثوار الحقيقيون وهو منهم فى إشارة إلى أن ال77% الذين أيدوا التعديلات يقعون فى مربع الثورة المضادة. وبدا ذلك تجريحًا من جانبه للأغلبية التى يطلب تأييدها! قال موسى إن مصر دولة فقيرة وأن المطالب الفئوية التى تكاثرت بعد الثورة لا تختلف كثيرًا عن الذين يحاولون حلب بقرة نضب لبنها. وتلك قراءة لا تعول كثيرًا على التنمية الداخلية كما تهون كثيرًا من شأن غنى البلد بثروته البشرية وموارده الاقتصادية. وهذه الرؤية لا ترى حلاً لمشكلة التنمية فى مصر سوى الاعتماد على الاستثمار الأجنبى والقروض الخارجية. كان الاختلاف واضحًا بين المرشحين حول الموقف إزاء الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، فأبو الفتوح رفض الاستجابة لأي تأثيرات خارجية على سياسة مصر الخارجية، واعتبر إسرائيل عدوًا يهدد الأمن القومى المصرى. أما موسى فأكد على أن سياسته لن تغضب الولاياتالمتحدة، وأن إسرائيل خصم لا يحبه المصريون. وكرر مرتين أنها ليست عدوًا، فبدا الأول تعبيرًا عن منطق وموقف الثورة المصرية، أما الثانى فقد بدا ملتزمًا بخطوط السياسة التى التزم بها نظام مبارك. 4 كان عمرو موسى أكثر عدوانية وتوترًا، فى حين بدا أبوالفتوح أكثر هدوءًا وتماسكًا. ومع ذلك خرج المرشحان متعادلين تقريبًا رغم الهنات هنا وهناك، بحيث يتعذر القول بأن أحدهما اكتسح الآخر. وهذا ما شهدت به وكالات الأنباء الأجنبية التى تابعت المناظرة، إلا أن الاستقطاب كان واضحًا فى بعض معالجات الصحف المصرية. فقرأنا فى أوساط العلمانيين تهليلاً لصالح عمرو موسى وحفاوة بالغة بما قاله وهجومًا مقذعًا على «أبوالفتوح» استند إلى جذوره الإخوانية. وذهب أحد الكاتبين فى هجائه لأبوالفتوح إلى القول بأن موسى وجه إليه ضربة قاضية وأخرجه من سباق الرئاسة فى أول جولة للحوار. لم يخلُ الأمر من هجاء لموسى، استعاد موقفه فى مؤتمر دافوس حين انسحب رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان من المنصة احتجاجًا على منعه من الرد على تجاوزات وأغاليط شمعون بيريز رئيس إسرائيل، لكن عمرو موسى الذى كان جالسًا بالقرب منه تردد فى التحرك ثم بقي في مقعده بعد إشارة من الأمين العام للأمم المتحدة. وغمز آخرون فى مكافأة نهاية الخدمة التى منحت له عند مغادرته منصبه فى الجامعة العربية، والتى طلب المندوب السعودى زيادتها إلى 5 ملايين دولار فى اجتماع مجلس الجامعة، وهو مبلغ لم يكافأ به أى أمين عام آخر فى تاريخ الجامعة العربية، حيث كانت القاعدة أن يكافأ بمبالغ فى حدود نصف مليون دولار فقط. هذه الأصداء كانت من تداعيات تركيز التراشق والحوار حول الأشخاص. ولم تكن بعيدة عنها إشارة جريدة «الشروق» فى عدد السبت 12/5 إلى أنه خلال فترة الاستراحة التى تخللت المناظرة فإن موسى طلب فنجانًا من القهوة الأمريكية، أما أبو الفتوح فقد اكتفى بفنجان من القهوة التركية، الأمر الذى تصيده بعض الخبثاء واعتبروه إشارة لها دلالتها السياسية. مرحبًا بالتراشق المهذب بين المرشحين للرئاسة، وبشقاوة وتخابث المتابعين، طالما اننا نتقدم على طريق تأسيس معنى الديمقراطية بدلاً من مصر مبارك.