ما عاد المغترب السوداني هو تلك «الركازة» والعمود الفقري الذي لا تعتمد عليه الأسرة الصغيرة فحسب وإنما كل أفراد الأسرة الممتدة والأقارب والجيران والأصدقاء وحتى المحتاجين من الذين لا تربطهم بهذا المغترب أي روابط كلهم ينعمون بخيرات هذا القادم، خصوصًا إذا كان أحد مغتربي إحدى دول الخليج النفطية.. تفاصيل كثيرة يمكن أن نذكرها هنا ونسترجع بعضًا منها، فالمغترب في عصره الذهبي كان يتمتع بزخم ومركز اجتماعي كبير خاصة عندما يحط رحاله في ديار الأهل قادمًا من غربته تحفه رعاية الوالد والوالدة والعمات والخالات وهو ينثر الهدايا يمينًا وشمالاً والكل هنا يرقب تحركاته وينظرون إليه كما القادم من كوكب آخر، ومنذ اليوم الأول تتحوَّل بنود الصرف بالأسرة إلى المغترب الذي يتكفل بكل النفقات على الأسرة وغيرها من المنح تلك هي ملامح صورة زاهية... تجسد إمبراطورية المغترب السوداني في عصورها الذهبية ولكن ما بال هذه الإمبراطورية تشهد الآن مراحل سقوطها وتفقد بريقها وألقها بعد أن انفض الجميع من حولها وما عادت هناك ميزة تفضيلية للمغترب داخل الأسر السودانية، فالمغتربون أسقطوا من فكرهم الأمتعة والمحمولات الأخرى من الشنط والهدايا واختزلت.. العملية لدى الكثيرين شنطة واحدة أو شنطتين وربما «كيس» فقط فما الذي تغيَّر؟ هل هي المسؤوليات الاقتصادية أم انحسار دائرة التواصل الاجتماعي بين المغترب وأسرته الممتدة.. بعض المغتربين يعتقدون أن ملاحقة الدولة لهم ماليًا عبر طائلة الرسوم والضرائب أثقلت عليهم الحمل وأثرت سلبًا على تواصلهم الاجتماعي والمالي مع أسرهم، وكل مغترب بات يفهم أنه لا بد أن يكون على درجة عالية من الاستعداد المالي لمواجهة الضرائب التي تُفرض عليه من قِبل الدولة عبر جهاز المغتربين وهي ظاهرة قلق مستمر يعايشها المغترب في مهجره ووسط أهله عند العودة، ويزداد هذا القلق رغم أن الدولة أصبحت توجهاتها تمضي في اتجاه التخفيف من حدة الضرائب عبر حزمة من السياسات والقرارات ولكن تظل قضية المغترب أنه أصبح عاملاً متحركًا في كل السياسات الاقتصادية والمالية، كما أنه بات أسيرًا لعوامل الحراك والتبدل في نظرة الشعوب والحكومات الخارجية لوجود الوافدين على أراضيها. ولكل هذا فإن كل ما يحيط بالمغترب من ظروف وتحدّيات تفرض عليه ضغوطًا جديدة تجبره على أن يتخلى عن قيمة المن والعطاء حتى داخل حدود أسرته الصغيرة.. أليس نحن إذن في مرحلة التحوُّل من العصر الذهبي إلى العصر الكرتوني؟.