عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع علي الحاج في مهجره... «الحلقة الأولى»
نشر في الانتباهة يوم 03 - 06 - 2012

في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.
قلت له ونحن نشرع في الحوار معه:
من أين نبدأ؟ القضايا بعدد الرمل، والمشهد المفتوح من أوله لآخره، بكل أستاره وغيومه وسطوعه ونجومه وتعرُّجاته، يجعل من فسيفساء الحديث تتناثر في كل اتجاه..
رد عليّ رداً مفاجئاً بسؤال:
قبل الحديث عن كل شيء لابد لي من الحديث عن صحيفتكم التي ساهمت كما أرى في ما حلّ بالسودان وكثير من الناس يرون أنها قادت خطاً عنصرياً.. فهل كنتم ضد الجنوبيين كعنصر؟
قلت له:
نحن لم نقدِّم طرحاً عنصرياً قط، نحن ضد المشروع السياسي للحركة الشعبية وقلنا آراءً حول نيفاشا وطالبنا بسلام عادل وإعطاء الشماليين حق تقرير المصير مثل الجنوبيين ودعونا لفصل الشمال عن الجنوب، وليس الجنوب عن الشمال.
«قال بجدية»:
في تاريخ الشعوب والأمم هناك قضايا حساسة وخطيرة في مقدمتها أن أي طرح من هذا النوع يفسّر على أنه عرق ضد عرق أو جنس لا يؤخذ إلا بالصورة التي رآها الناس له، ولدي معرفة كاملة بالصحيفة ومؤسسيها مثل صلاح أبو النجا وعبد الوهاب عثمان والطيب مصطفى وغيرهم لكنني أنظر لما أحدثته في واقع ومستقبل السودان... هي ومنبر السلام العادل...
قلت له:
لندع الصحيفة والمنبر فقد قارب الحديث عنهما من نقاط رئيسة في مفتتح حوارنا، وهي قضية السلام في السودان التي كانت تبدأ بالجنوب وتنتهي عنده، وأنت مخزن أسرار في هذا الملف، ولنعطِ صورة عامة ما هي قصة ومشروع السلام في السودان في عهد الإنقاذ ومراحلها وقبلها ومآلاته؟؟
« اعتدل في جلسته... ونظر أمامه كأنه يحدق في أفق بعيد...»
هذه قصة طويلة... طويلة، ومن العسير أن يكون هناك تقييم شامل، ومن المفارقة الكبيرة أن مشروع السلام كانت توجد فيه أدبيات ومرجعيات للحركة الإسلامية، كانت هناك خطة مكتوبة للحركة الإسلامية منذ العام 1982م قبل تكوين الحركة الشعبية، وكُتبت هذه الخطة...
من كتب هذه الخطة؟
كتبها عدد من مفكري الحركة الإسلامية ونُوقشت في منزل علي خضر كمبال في مدينة النيل في هيئة الشورى في زمن نميري وحضرها عدد من قيادات الحركة الإسلامية العالمية مثل مصطفى مشهور وعدنان سعد الدين وقيادات التنظيم العالمي...
ماذا تحمل الخطة من محاور آنذاك؟
فيها كل شيء عن الجنوب وماذا نريد منه وكيفية كسبه لصالح الإسلام وتنميته وعلاقاتنا به بإنسانه، ووضعنا فيها جملة من مستهدفات إستراتيجية حول الجنوب؟ ما واجبنا وكيف نحل قضيته ونكسبه؟... وسرنا على هدي هذه الخطة قبل الإنقاذ... كانت لدينا خطة ومنهج للتعامل مع قضية الجنوب فيها مرتكزات أساسية، وأي شخص يعتقد أنه لم تكن هناك خطة فهو لا يعرف شيئاً.
وبعد الإنقاذ؟
في بدايات الإنقاذ كنت أنا مسؤولاً عن هذا الملف قبل الإنقاذ وبعدها، كنا نمضي في ذات الخطة وصممنا مشروع السلام على هدي مرجعيات الحركة الإسلامية وأدبياتها وسرنا في هذا الدرب وبدأنا بالفعل مفاوضاتنا مع الطرف الآخر في أديس وكينيا وأوغندا وأبوجا، وكانت هناك أبوجا الأولى والثانية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكل شيء موجود وموثق رغم وجود خلافات في وجهات النظر من هنا وهناك داخل التنظيم، حتى جاء العام 1994 الذي حدثت فيه تحولات ومسارات أخرى غيّرت كل شيء حتى في مسار الإنقاذ نفسها بالنسبة إليّ.
ماذا حدث في هذا العام بالتحديد؟
حدث خلاف كبير في هذا العام حول السلام نفسه، كان هناك من لا يرغب في السلام ويعتقد أن قضية الجنوب تحل عبر الحل العسكري فقط... والغريب أن المجموعة التي صنعت نيفاشا لاحقاً هي ذات المجموعة التي كانت لا ترغب في السلام آنذاك.
ما الدليل على هذا القول؟
أقول لك.. في يوم الأحد 31يوليو 1994، بعد الانتهاء من اجتماع لمجلس الوزراء وكنت عائداً من نيروبي بعد مشاركة في اجتماعات للإيقاد، بعد الجلسة استوقفني الأخ علي عثمان وهو وقتها نائب الأمين العام للحركة الإسلامية ووزير التخطيط الاجتماعي آنئذ، وقال لي «يا علي.. الجماعة منتظرنك في مكتب عوض الجاز..» وفهمت منه أن إخواننا التنفيذيين المسؤول عنهم الأخ عوض الجاز وهو مسؤول الأجهزة العسكرية والأمنية في التنظيم ووزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء، يريدون تنويراً عن مسار السلام والمفاوضات وكنّا في تلك الأثناء نتفاوض عن وقف لإطلاق النار بمبادرة من قرنق، والقوات المسلحة كانت متقدمة ومنتصرة ولم يتبقَ لها إلا نمولي فقط.
وذهبت للاجتماع وكنت أتوقع أن يكون الأخ علي عثمان حاضرا هو أيضاً الاجتماع.. لكنه لم يكن موجوداً بل وجدت كل قيادات الدولة الأمنية والعسكرية والشرطة والقيادات التنظيمية والسياسية في هذا الاجتماع ولم يغب عن قيادة الدولة سوى الرئيس والشهيد الزبير رحمه الله وعلي عثمان ومحمد الأمين خليفة وشيخ حسن، المنظر كان فيه حشد للناس وكثير منهم جلوساً على الأرض لعدم سعة المكتب وعوض الجاز كان مترئساً الاجتماع.
مقاطعة: ما الغرض من هذا الاجتماع؟
كنت أعتقد أنه تنوير عادي.. لكن وجدت نفسي أدافع عن مقترح وقف إطلاق النار الذي طُرح مرتين، مرة بعد اللقاء مع قرنق في عنتبي فبراير 1993 وكان معي الشهيدان أبو قصيصة وموسى علي سليمان وقدم قرنق مقترحاً لوقف إطلاق النار، وجيشنا كان في «أشوا..» يقترب من نمولي، والمرة الثانية التي نحن بصددها في هذا الاجتماع، مقترح من الرئيس البشير نفسه، طرحه أمام مليسا ويلز مندوبة الرئيس الأمريكي لشؤون السودان، التي زارت السودان قبل أن تذهب لحضور قمة الإيقاد في ذلك الوقت واجتمعت بالرئيس وطرح لها في اللقاء المقترح باستعداد الحكومة لوقف إطلاق النار.
وكانت الفكرة التي تحدث بها في الاجتماع بمكتب عوض الجاز بمجلس الوزراء، أننا بعد الموافقة على وقف إطلاق النار يجب أن ندخل في اتفاقيات سلام مع الفصائل الجنوبية الأخرى لأن قرنق لن يأتي بسرعة ويجب أن نحقق الأمن والاستقرار في الجنوب مع التفوق العسكري الذي كان لصالحنا.. وقلت لهم الحرب انتهت... لم يبقَ لنا غير نمولي.. لكن فوجئت في الاجتماع أن إخواننا وبينهم عوض الجاز والقيادات العسكرية والشهيد إبراهيم شمس الدين رحمه الله رفضوا الفكرة وقالوا إن الحرب يجب أن تستمر ولا جدوى من السلام.
ماذا فعلت خلال وبعد الاجتماع؟
شعرت أنني تحولت لمدافع عن فكرة وتوجه وسياسة كان متقفاً عليها.. وأن الإخوة في الاجتماع ضد ما نقوم به من جهد من أجل السلام، أنا ومن معي ومن ذهب شهيداً في تلك الفترة.. وقالوا لي في الاجتماع: كيف تطرح وقف إطلاق النار؟ ولماذا؟ وأثاروا قضايا مختلفة كل مؤداها أن خطة السلام غير مقبولة بالرغم من أنها كانت خطة وسياسة متفقاً عليها..
متفق عليها مع من؟
بالطبع كل قيادة الدولة والتنظيم، فمشروع وقف إطلاق النار في ذلك الوقت والتمهيد للسلام كنا متفقين عليه الرئيس وشيخ حسن وعلي عثمان وغازي وبقية الإخوة ذوي الصلة بهذا الملف.
ماذا حدث بعد ذلك؟
خرجت من الاجتماع بأن هذه المجموعة التي تشكل مركز قوى ترفض توجهات السلام، وسألت بعدها الرئيس لأنه كان متفقاً معي حول خطوات وترتيبات إدارة ملف السلام ومسألة وقف إطلاق النار.. لكنه قال لي «هؤلاء إخوانك الأفضل أن تقنعهم أنت لأنني لو تدخلت وهم عسكريون سينصاعون دون قناعة وأنا رئيسهم، فالأفضل هو كسبهم لصالح الموقف الراهن بالإقناع والحوار» وسألت علي عثمان أيضاً بعد ذلك، لكني وجدت أن هناك صورة بدأت تتضح لفريقين داخل الإنقاذ، فريق مع السلام وفريق ضده، أو على الأقل ضد الصورة التي كنّا نديره بها، وبدت لي المجموعة التي فيها العسكريون أكثر قوة وتأثيراً ولها فيتو على مجمل القضية.
على ماذا كنت تبني رؤيتك وتحركاتك في ملف السلام ألم تكن هناك موجهات مجمع عليها؟
توجد موجهات ومرجعيات منها خطة الحركة الإسلامية وما استجد من وقائع وتكيتيكات جديدة وفق الظرف المتطور ومراحل القضية، وكانت لدينا رؤية.. و كنت مقتنعاً شخصياً بأن وقف إطلاق النار في ذلك الوقت يمهد سلام يقوم على أسس صحيحة وتسوية عادلة، لأن الحرب في ذلك الوقت عملياً قد وضعت أوزارها، وكانت حركة التمرد محاصرة في الحدود مع يوغندا في جيب محدود عند نمولي، ولم تكن لنمولي أية أهمية إستراتيجية سوى رمزيتها كآخر نقطة حدودية للسودان جنوباً، وكان يصعب دخولها إلا بالهجوم عليها بالالتفاف عبر الأراضي اليوغندية كما قالت الآراء العسكرية المحضة.
لماذا تم رفض المقترح آنذاك الذي يمهد لتسوية من ذلك التاريخ؟
للأسف كان الإخوة معبئين ضد أي مسعى من هذا النوع، وكانوا يريدون فقط مواصلة القتال، وكانت هناك آراء أخرى بعدم ذهاب عدد كبير من الناس من الوفود للإيقاد واجتماعاتها وأشياء من هذا القبيل.
ماذا فعلت بعد ذلك؟
بالنسبة لي كان هذ الاجتماع، أمراً فاصلاً، وشعرت أن كل هؤلاء لا يريدون ما نعمله، وأن قصة السلام لا معنى لها ، والناس تريد الحرب من منطق أننا يجب أن نحقق أهدافاً محددة مثل موضوع نمولي، وبدأت أتساءل مع نفسي: ما الحاجة ليكون هناك مسؤول سلام من الأساس؟.. وحاولت من ذلك اليوم إنهاء علاقتي بملف السلام تماماً لأن ما كنت أقوم به كان مرفوضاً.
هل انتهت علاقتك بالملف بهذه الطريقة فقط ولهذا السبب؟
تقريباً.. لأنني بعد هذا الاجتماع حضرت في مساء نفس ذلك اليوم اجتماعاً آخر كان فيه الرئيس وشيخ حسن وعلي عثمان، وكنت قد أبلغت شيخ حسن بما تم في اجتماع مكتب عوض الجاز، وسألني عن الصفة التي تحدث بها هؤلاء الإخوة معي، وقلت له إنني لست رجل بروتكولات ورسميات، فقط طلب مني نائب الأمين العام في الحركة الإسلامية أن اجتمع بهم وفعلت.. وأنا مسؤول الملف.. وقلت له إن هؤلاء الإخوة لا يريدون السلام.
بماذا رد شيخ حسن؟
لم يعلق تعليقاً حاسماً وكان واضحاً أن هؤلاء الإخوة قد سيطروا على كل الأمور.
كيف تركت الملف؟
تركت الملف تماماً ولم أتدخل منذ ذلك التاريخ، وخلال هذه الفترة من 31/7/1994م حتى أبريل 1996 تفرغت للحكم الاتحادي، ولم أتدخل إلا بعد التفاوض مع رياك مشار «مجموعة الناصر» وكان محمد الأمين خليفة وغازي صلاح الدين وأحمد إبراهيم الطاهر وبقية الإخوة يواصلون مع الإيقاد في مشروع السلام، وكثيراً ما كان يطلب مني المشاركة والذهاب مع الوفود لكنني أرفض، وكان هناك لقاء تم تحديده مع رياك مشار في الناصر بالجنوب، فطلب مني المرحوم مبارك قسم الله أن أذهب فرفضت، واقترحت عليه أن يذهب الشهيد الزبير رحمه الله وقد تم بالفعل، ولم أشارك في عمل آخر متعلق بالسلام إلا عند زيارة سرية لرياك مشار ومجموعته للخرطوم في أبريل 1996م وطلب مني الأخ علي عثمان أن أحضر اجتماعاً في نادي الضباط مع وفد حركة مشار، وقبلت بشرط أن يحضر هو هذا الاجتماع وقد كان... وقلت له قبل هذا الاجتماع إنني لست معنياً وحدي بملف الجنوب، ولا هو ملكي فإذا كانت كل جهودي مرفوضة، فلماذا أشارك في عمل كنت قدمته من قبل ورفض؟ وبعد ذلك سارت الأمور دون أن أكون طرفاً أصيلاً فيها.
أين خطة الحركة الإسلامية وتدابير الحكومة من أجل السلام؟
في هذه الأثناء كانت ملامح المفاصلة قد بدأت تتضح، مع قضايا أخرى تتعلق بالسلطة وتشابكاتها وظهرت المجموعتان المتجاذبتان.. وحدثت حالة من السيولة ضاعت فيها الالتزامات بخطة الحركة الإسلامية نحو الجنوب.
أنت كنت قريباً من شيخ حسن، أين هو من كل هذا؟
أقول لك بكل صراحة... شيخ حسن في كل ما يحدث تحول لحكم وليس حاكماً... كان يحاول أن يفصل بين منازعات المجموعات المتشاكسة داخل السلطة والحركة الإسلامية.. وأصبح حكماً بين مؤيدي السلام ودعاة الحرب.. وخرج القرار من بين يده للأسف. اما الرئيس البشير فللأمانة كان مع خطة السلام ودعمني بقوة ومقتنعا بجدوها ولكن اراء اخوتنا كانت معيقة .
لكن يا دكتور الموقف من ما كنت تقوم به ورفض إخوانك له سببه إبرامك لاتفاق سري مع لام أكول في فرانكفورت في 25 يناير 1992م وموافقتك على تقرير المصير؟؟
« أجاب بانفعال»: نعم أنا عقدت هذا اللقاء واتفقنا على تقرير المصير، لكن هل هذا هو عمل خاص بعلي الحاج أم كان توجه الإنقاذ وبموافقة كل إخواننا في قيادة الدولة والحركة؟.. ومن يقول ذلك لا يعرف شيئاً ولم يقرأ شيئاً... تقرير المصير لم أوافق عليه أنا علي الحاج ولا يصح أن ينسب لي، ثم أنا من فاوض حوله وأتيت به من لقاء فرانكفورت، لكن هل كنت وحدي؟ وهل أنا متخذ القرار في البلاد؟ كنت أنفذ ما تقرره القيادة وأفاوض بالنيابة عنها، فلو كان هناك خطأ تم ارتكابه في الموافقة على تقرير المصير لماذا لم يصلحوه أو يلغوه بعدي.. وهل علي الحاج «الجن دا» هو من فعل كل هذه الخطايا ولا يتحملها معه الآخرون.. وهل كان اجتهاداً صائباً أم خاطئاً؟؟
هل تتحمل تبعات ذلك؟
أتحملها بكل شجاعة... ولكن لا يصح أن يزوغ الآخرون منها.. «يضحك» في حالات الزنقة يتملص الجميع من ما فعلوه.. لكنني لن أهرب من ما اقتنعت به... وبالله عليكم هل بعد كل سنواتنا وعملنا في الحركة الإسلامية التي أفنينا فيها عمرنا لا يذكر لي إخواني أي حسنة واحدة فقط ينسبون لي تقرير المصير؟؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.