تدير المجتمعات العلاقة مع السلطة، وتتبع أعمال الدولة في تنفيذها لبرامجها وتحقيق الأهداف التي التزمت بها، وتهيئة الأمة للقيام برسالتها الدعوية والإنسانية في تحرير البشر من عبادة غير الله، وتدعو إلى التنافس في عمل الخير والإحسان وتحقيق مبادئ الإخوة والمساواة، إضافة إلى ذلك تقوم المجتمعات بمساعدة السلطة في ما تحسن وتنبهها عندما تخطئ، وتقومها وتنصحها، وقد تواجهها في ما تصرُّ عليه من الخطأ، خاصة عندما تفسِّر الدين وفق الهوى والمصلحة والتمكين للأفراد بدل التمكين للدين، وجعل الدين مطية إلى التحكم في الرقاب واستعباد العباد بسلطة الحزب الأوحد الحاكم. إنّ مبادئ الشورى والعدل وغيرهما تظل شعارات ومبادئ ما لم تترجم في أرض الواقع والممارسة للجماعة التي تؤطرها، وتجمع الناس حولها ليكونوا جماعة فاعلة تعزّز السلطة وتمنحها الثقة وتقوم بواجب الرقابة الشعبية والتحذير والتقويم حينما تسيء السلطة التصرف أو تنحرف عن الأهداف، وتتحول الى كابوس يقلق حياة الناس بدل أن يكون مصدر استقرارهم وأمنهم وراحتهم. والسلطة المجتمعية هي التي تحفظ التوازن بين الحاكم والمحكوم، وتوجد العلاقة المتكافئة بين الحاكم المنتخب والأمة المبايعة على إنفاذ شرع الله والتزام العدل والإحسان والمساواة والأخذ بالشورى، لأن خطورة التنظيم الواحد والحزب الواحد، أنه لن يكون الوعاء الجامع كما يقال، لأنه يفرض رأيه وتصوراته على الجميع كما يتحدث باسم الناس وينصب نفسه راعياً وموجهاً ومقوماً للأمة، بل قد يصل الأمر إلى تبني رؤية الشخص الواحد والعقل الواحد، فتشقى الأمة بذلك وتتعرض للمحن والكوارث والمصائب، ولا يملك أحد حق المحاسبة أو المساءلة أو التغيير أو حتى حق التعبير والاستنكار. إنّ اختلاف الآراء حول المناهج والخطط والأساليب بين النخبة أمر مشروع قد تنتج عنه اجتهادات يلتف الناس حولها في سبيل تحقيق الأهداف وتمكين الدين وتطبيق شرع الله، الأمر الذي يجعل الأحزاب كلها أحزاباً لله وضمن الجماعة الناجية، دون أن تدعي الاستئثار بهذه الصفة جماعة تزكي نفسها على الله وتحرم الآخرين مما أحلته لنفسها. إن الحكم الإسلامي يقوم على الشورى، والشورى هي توزيع للسلطة ومنع تركزها في جهاز اسمه الدولة.. وتوزيع السلطة لا يعني مجرد المشاركة في مناقشة الأمور العامة والتقرير فيها، بل هو أكثر من ذلك وأعمق، إنه تكوين المجتمع المدني، المجتمع الذي لا تتخذ علاقته بالسلطة صورة الرأس من الجسد، فتتعطل وتنعدم وظائف الأول بمجرد انفصاله عن الثاني.. نعم يكون كماله في الاتصال المنظم بينهما، وكما يقول الغنوشي في كتابه «مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني»: «إن القرآن والسنة لم يوجها أي خطاب للحكومة، إنما الخطابات كلها موجهة للأمة، وما الحكومة سوى أداة من أدوات كثيرة تصطنعها الأمة لأداء مهمة النيابة عن الله في إقامة الحق والعدل وسائر أحكام الشريعة ومقاصدها الكبرى في حفظ الدين والعقل والنفس والعائلة والمال والحرية. إن مركز الثقل في البنية الإسلامية ليس سلطة الحكومة، وإنما سلطة المجتمع الإسلامي، وذلك من خلال ما خَّوله الإسلام للأمة أفراداً وجماعات من حقوق لا سلطان للدولة عليها، وما فرضه عليهم من واجبات لا فكاك عنها».