إن الذي عبَّر عنه د. حسبو محمد عبد الرحمن الأمين السياسي للمؤتمر الوطني ورئيس كتلة نواب دارفور كما جاء في وصفه في الخبر يعبِّر أصدق تعبير عن المأساة التي يعيشها الفكر السياسي السوداني في النواحي النظرية والعملية معاً.. فقد صرح د. حسبو بأن الحريات الأربع بين السودان وجنوب السودان.. متوافقة أكثر مما هي بين مصر والسودان.. والذي يتضح من هذا التصريح أن الدكتور مع شديد الأسف والأسى لا يعرف مدلول الحريات الأربع.. من الناحية الشرعية ولا من الناحية الأخلاقية. إن الحريات الأربع تمثل حالة من «السفاح السياسي» ولا أظن أن الوجدان والضمير السوداني الذي شهد وعاصر تطورات الملف الجنوبي من لدن تمرد توريت عام 1955م إلى خيانة هجليج سوف يغفر للدكتور حسبو هذه الجرأة التي لا تقف فقط عند حد الحرق السياسي بل تصل إلى حد الجرأة على الله!! إن الذي يجب أن ينشغل به المفكر السياسي والمفاوض العادي وليس المتمرس هو قضية الترتيبات الأمنية وليس الترتيبات السياسية.. لقد ظلت مؤسسات القطاع العام الاقتصادية تُمنى بالفشل والانتكاسات منذ عهد الاستقلال.. بينما ظلت المؤسسات الاقتصادية التابعة للقطاع الخاص تحقق النجاحات والتفوق في الظروف العادية مما يثير الغيرة والدهشة في آن واحد.. ويبدو أن الظاهرة تتكرر مرة أخرى في مجال السياسة وأحسب أنني الآن في أمس الحاجة إلى وفد مفاوضات قطاع خاص. إن شركات القطاع العام تفشل لأن المدير ليس لديه ما يخسره إذا فشلت وأفلست.. والمرتب سوف يناله في موقع آخر. بالنسبة للمفاوض السياسي فإن الأمر أكثر تعقيداً.. فالسياسة غير الاقتصاد.. والمفاوض السياسي حريص جداً على منصبه سواء كان ذلك في وفد التفاوض أو في وظيفة دستورية أو حزبية بالداخل.. لذلك فالفشل والنجاح للمفاوض السياسي أمور نسبية.. إن أخطر ما يقع فيه المفاوض السياسي هو الابتزاز الذي يمارسه عليه خصومه في التفاوض أو القوى المعادية، وكثيراً ما يكون الابتزاز مستتراً وفي الخفاء حتى لا يحرج المفاوض الذي يرضخ للابتزاز.. ولكن في الحالة السودانية فإن الابتزاز معلَن ومصرَّح به ومبرمج مع تطور المفاوضات، فمجلس الأمن يمارس ابتزازاً مكشوفاً على حكومة السودان وعلى المفاوضين.. وأوكامبو يمارس ابتزازاً مكشوفاً على السودان.. ويسارع بإعلان تشديد الحملة على السودان ليسلم رئيسه للمحكمة الجنائية ومعه أحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين وكوشيب.. بهذه السهولة وهذه البساطة.. وثامبو أمبيكي أيضاً يمارس الابتزاز.. ويتدخل فيما لا يجوز له التدخل فيه.. ويعرض خرائط يرفضها السودان.. خرائط تضم مناطق ليست أصلاً في دائرة النزاع.. والحقيقة والواقع أنه ليس هناك مناطق نزاع بين الشمال والجنوب منذ أيام التمرد الأولى بحدود 56 التي ارتضاها الأطراف كلهم بما فيهم دولتا الحكم الثنائي والحكومات المتعاقبة وحركات التمرد المتعاقبة. إن الأمور التي ينبغي أن تُحسم.. وتُحسم بسرعة وبلا إبطاء منها وجود الفرقتين العاشرة والتاسعة في داخل حدود السودان وهما تابعتان للجيش الشعبي لتحرير السودان ومنها كف يد الجنوب عن دعم حركات تمرد دارفور ومنها وقف العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الشعبي شمال حدود 56.. وهي معروفة وكثيرة ليس آخرها هجليج. وهذه ليست مناطق نزاع ولا موضوعات خلاف ولا ينبغي أن توضع على منضدة التفاوض.. بل إن هذه الأمور هي ما يجب أن تضطلع به الأممالمتحدة وثامبو أمبيكي.. فعلى الاثنين أن يحملا هذه الرؤية ليس باعتبارها رؤية الوفد الحكومي المفاوض.. بل باعتبارها رؤية الوسطاء.. لأن المفاوضات بغير الوصول إلى إقرار كامل من وفد التمرد الجنوبي فلن تبدأ أبداً.. إن الخريطة التي حملها أمبيكي أو حملها مجلس الأمن وساندها بقراراته وتهديداته المبنية على الفصل السابع والذي يتيح استخدام القوة لا ينبغي أن تكون بنداً من بنود التفاوض. ولو كنت أنا رئيس وفد التفاوض لحزمت أمتعتي وعدت إلى الخرطوم. وبالرغم من كل هذا الوضوح فإن وفد التفاوض يسكت على انضمام عقار وعرمان إلى مقر المفاوضات والذي يمثل تكريساً للخروقات الأمنية والترتيبات الأمنية التي تأتي في أولويات بنود التفاوض السوداني الجنوبي.. إن الوفد السوداني في أديس أبابا لا يعارض.. فهو لا يعرف كيف يفاوض ولا كيف يعرض أو يستعرض قوته ولا أسلحته التفاوضية.. إن الترتيبات الأمنية تمثل هذا الذي قلناه وهو قفل ملفات أوكامبو ومجلس الأمن وثامبو أمبيكي ودوره الخبيث وقفل ملف مناطق النزاع إذ ليس هناك حقيقة مناطق نزاع وقفل ملف الفرقتين التاسعة والعاشرة وقفل ملف دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وقبل ذلك وبعد ذلك وفوق ذلك قفل ملف الحريات الأربع أو ملف ما يسمَّى بالسفاح السياسي الذي تطلبه الحركة ويرنو إليه وفد التفاوض. بعد قفل هذه الملفات بقوة وبحزم نكون قد حققنا لنا ولهم ملف الترتيبات الأمنية رقم «1». وبعدها.. بعدها فقط.. وليس قبلها يمكن فتح ملف الترتيبات الأمنية رقم «2» وهو ملف حسن الجوار.. وملف البترول..