الحمد لله الذي جعل الحكومة وعلى لسان وزير الدفاع تعترف بأهمية وضرورة وجود مراكز دراسات لدعم صنع واتخاذ القرار، وما قاله السيد الوزير في هذا الشأن في تقديري هو أهم ما قيل على الإطلاق في مؤتمره الصحفي أمس الأول، فالنهاية التي وصلت إليها محادثات أديس أبابا هي نهاية كانت متوقعة ومرجحة وليس فيها جديد يستحق الذكر، فأكثر المتفائلين لم يكن يتوقع أن تحرز هذه الجولة أية نتائج إيجابية أو تقدماً نحو الوقوف على أرضية مشتركة تمكن الجانبين من الوصول إلى حلول مرضية للطرفين. والجديد مجازاً في هذا المؤتمر الصحفي في رأيي كان هو تلك التفاصيل والوقائع والحيثيات التي قام بسردها الوزير على الصحافيين، وهي تفاصيل تعكس بوضوح نظرة الجانب الجنوبي إلى هذه المفاوضات، حيث يعتبرها «ملهاة» لتزجية الوقت وتمضيته إلى حين حلول الأجل الذي حدده قرار مجلس الأمن الدولي والذي يحل في أغسطس القادم، وذلك من أجل وضع السودان في المواجهة مع ما يسمى «المجتمع الدولي»، ويظهره بمظهر الطرف المتعنت، أو في أحسن الفروض اللجوء إلى التحكيم. وخيار اللجوء إلى التحكيم هو ما تهدف إليه حكومة الجنوب، ويدلل على ذلك تقديمها للخريطة التي أدخلت فيها مناطق أخرى إضافية غير المناطق المتنازع عليها، فهي بذلك تريد أن تجعل كل المناطق العازلة على الحدود بين البلدين داخل الأراضي السودانية، وهذا الوضع يشكل ميزة نسبية للجبهة الثورية ولعملياتها التي تدعمها جوبا داخل الأراضي السودانية، والتي تستهدف بالدرجة الأولى مناطق النفط، كذلك فإن المناطق الجديدة التي أدخلتها جوبا في الخريطة يلاحظ أنها مناطق بترول، وهي إشارات تكتيكية شديدة الخبث تريد أن ترسلها جوبا إلى المستثمرين الجدد والحاليين مفادها أن هذه المناطق مناطق نزاع غير مستقرة فيحجمون عن الدخول بأموالهم فيها إلى حين البت في تبعيتها. والهدف من ذلك كله تضييق الخناق على الحكومة ومفاقمة الضائقة الاقتصادية في السودان، ومن ثم الوصول إلى الهدف الأساسي وهو إسقاط النظام، وعلى الحكومة ألا تتوقع أية نتائج إيجابية في جولة المفاوضات القادمة، بل عليها التحسب لمزيدٍ من التعنت والتصلب في المواقف من جانب الوفد الجنوبي، ولمزيدٍ من المفاجآت في المطالب من جوبا. كما يجب على الحكومة أن تقدم شخصيات جديدة قديمة ضمن وفدها المفاوض تكون لها خبرة سابقة في ملفات التفاوض، وكانت في يوم من الأيام أمينة على خزائن ومستودعات المعلومات بالبلاد، وملمة كل الإلمام بخفايا وخبايا ملف العلاقة مع الجنوب، فالقضية وطنية كما قال وزير الدفاع، ولما كانت كذلك فلا مناص من التخلي عن «الصراعات» الشخصية الجانبية القائمة على المصالح الضيقة، ومن ثم إشراك كل من له القدرة الفعلية على الإسهام الفعال في خدمة الوطن وقضاياه في هذا الظرف التاريخي الحرج. وأعود للإشارة الإيجابية التي أطلقها وزير الدفاع في مؤتمره الصحفي مساء الجمعة، وهي حديثه وتأكيده على ضرورة وأهمية وجود مراكز دراسات لدعم صناعة واتخاذ القرار بالبلاد. و«رحم» الله أستاذنا إسحاق أحمد فضل الله الذي بحَّ صوته وجف قلمه وهو ينادي آناء الليل وأطراف النهار بمركز دراسات للقيام بهذا الدور، وما انفك يدعو إلى ذلك ويستغيث بالحكومة ويرجوها أن تتفضل بإقامة مركز دراسات لمعونتها وتبصيرها، ولكن الحكومة كانت تصم أذنيها عن قوله وتستغشي ثيابها و «تدس» المحافير. وها هو شاهد من أهلها أخيراً يشهد بصحة ووجاهة ما ظل ينادي به فضل الله ومن قبله الكثيرون الذين يئسوا من استجابة الحكومة لنداءاتهم فلاذوا بالصمت الجميل، إلا إسحاق لم ييأس ولم يفتر، بل ظل قائماً على الحكومة يطالبها بما يعينها. أخيراً «آمنت» الحكومة بضرورة الاهتمام بمراكز الدراسات وعلى لسان رجل من القريتين عظيم، ولم يأتِ هذا الايمان من قناعات نظرية بل في تقديري جاء من واقع عملي على الأرض، حيث كانت جولة المفاوضات الأخيرة في أديس أبابا هي المحك الذي جعل الحكومة تستشعر أهمية وضرورة وجود مركز دراسات. ومراكز الدراسات تحظى في عالمنا المعاصر بأهمية شديدة عند صناع القرار ومتخذيه في الدول المتقدمة، وتعتبر الولاياتالمتحدة المثال الأبرز في تأثير هذه المراكز التي تسمي ب Think Tanks أو مستودعات التفكير، وأصبحت هذه المراكز في هذه الدول تلعب دوراً محورياً في المراحل الثلاث لقرار السياسة الخارجية صنعه واتخاذه وتنفيذه. ونحن في منظومة ما تسمى الدول النامية أو العالم الثالث أحوج ما نكون إلى مراكز الدراسات، فهي تعمل كمجسات وقرون استشعار ومؤشرات لاستقراء المستقبل، وعبرها تتحدد الرؤية السياسية للدولة وتعتبر مصادر لإنتاج المعرفة والفكر والثقافة. ولا يقتصر دور هذه المراكز على تقديم الدراسات الأكاديمية الجامدة أو التحليلات النظرية، وإنما دورها الحقيقي أصبح يتمثل في التصدي للتحديات والمشكلات والأزمات التي تواجهها الدولة بصورة مباشرة، وتقديم المشورة والنصح والبدائل بشأنها لدوائر صنع القرار. ولمراكز الدراسات دور مباشر في التأثير على الرأي العام من خلال عقد الندوات والمؤتمرات ونشر الدوريات والدراسات والتقارير لتبرير سياسة معينة أو نقدها أو الترويج لمشروع أو فكرة معينة. وعلى الحكومة أن تضرب على الحديد وهو ساخن، وتسارع إلى الشروع في تنفيذ المشروع، وذلك سيجعلها تستغني عن جيوش المستشارين على المستويين الاتحادي والولائي، الذين لا يجدون ما يشيرون به على رؤسائهم ويقضون سحابة نهارهم في شرب الشاي والقهوة وقراءة الصحف وتصفح النت على أحسن الأقوال. غير أن إنشاء مركز للدراسات لهذا الغرض ينبغي أن يسبقه تغيير في بنية وطريقة التفكير الجارية، وفي نمط صنع القرار الحالي الذي لا تحكمه أية أطر مؤسسية واضحة ومحددة المعالم، والتغيير ضروري لاستيعاب الفكرة الجديدة وضمان نجاحها، فإذا لم يتم هذا التغيير فلا فائدة من قيام مركز دراسات يُشاد بناؤه ويهدم جوهره ويصير فقط مجرد «كوافير» لتجهيز القرارات الحكومية وتزيينها ووضع المساحيق و«الكريمات» عليها و «زفّها» للرأي العام المحلي.