شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    قرارات وزارة الإعلام هوشة وستزول..!    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تنصح الفتيات وتصرح أثناء إحيائها حفل بالخليج: (أسمعوها مني عرس الحب ما موفق وكضب كضب)    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    إصابة مهاجم المريخ أسد والنادي ينتظر النتائج    السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    إبراهيم عثمان يكتب: عن الفراق الحميم أو كيف تخون بتحضر!    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحداث ليلة 17 نوفمبر 1958على لسان ابراهيم عبود قائد الانقلاب
نشر في الانتباهة يوم 04 - 07 - 2012

عندما نتناول في حلقاتنا القادمة محاكمة أبطال نوفمبر من قدامى المحاربين لا بد أن نحكي للناس كيف تم تنفيذ الانقلاب والاستيلاء على مقاليد الحكم وكيف جرت أحداث أكتوبر وسقوط ثورة نوفمبر ومن هنا نبدأ أحداث ليلة «17 نوفمبر 1958م» على لسان قائد الثورة الفريق إبرهيم عبود.
{ من النهار إلى الليل
هكذا بدأنا نفكر جدياً في الثورة، بدأنا نضع الخطة لتنفيذ الانقلاب الذي يريده كل مواطن سوداني ويريده الشعب، لقد كان النجاح مضموناً لأن شعب السودان هو الذي يريد ثورة على الأوضاع وقررنا أولاً أن ننقل اجتماعاتنا من النهار إلى الليل، قررنا أن نجتمع أربع ساعات على أن يتم الاجتماع في مكتبي برئاسة القوات المسلحة مرتين في الأسبوع، والمفروض أن جميع الضباط يأتون إلى مكتبي دائماً، كما أننا نجلس دائماً في مكتبي بالليل كأصدقاء ولم يكن أحد يشعر أننا نختار رئاسة الجيش لندبر فيها انقلابًا.
إن اجتماعنا في المنازل قد يثير الشك ولكن اجتماعنا في رئاسة الجيش وأمان الجميع لا يمكن أبداً أن يكون وراءه ثورة بل على العكس إنه دائماً لإخماد ثورة، وقد علمتني خبرتي في صيد الحيوانات فأنا أهوى الصيد واصطدت عدة أسود وأفيال وحيوانات أخرى علمتني خبرتي أنك تصطاد أسهل لو أتيت من مكان آمن لفريستك، إن الضربة في هذه الحالة تكون صائبة مائة في المائة لأنك تأخذ الوقت الكافي لإعداد سلاحك وتصويبه بينما فريستك آمنة تترك لك هذه الفرصة.
{ وضعنا الخطة
واتفقنا عليها كلها ووضعنا استعدادنا لكل شيء وقدرنا كل الاحتمالات، كان حساباً دقيقاً لكل ما يمكن أن يحدث وكل ما نفعله للقضاء عليه، ولم يكن وضع كل الاحتمالات غير المنتظرة في الخطة معناه أننا ننتظر شيئاً، فقد كنا نعلم أن الشعب سيرحب بخطوتنا لأنها ثورية، ولكن الأيام وتربيتنا العسكرية عودتنا ألا نترك شيئاً للظروف، وأن نحتاط للأسوأ، فإذا حدث الأحسن كان ذلك في مصلحتنا، وعقدنا اجتماعًا حاسماً في قيادة القوات المسلحة لقد حددنا في هذا يوم تاريخ الانقلاب وجعلنا 16 نوفمبر 1958م وكان هذا اليوم هو اليوم السابق لافتتاح البرلمان، وكانت أمامنا الفرصة لنحرك القوات العسكرية كما نريد دون أن يشك في أمرنا أحد، إننا سنتخذ من حجة افتتاح البرلمان ستاراً نخفي وراءه الغرض الحقيقي من تحرك القوات، قررنا زيادة حامية الخرطوم وبدأنا في وضع الخطة التفصيلية لكل شيء، بدأنا نحدد الأسماء التي ستنفذ الأوامر، عدد الجنود والسيارات المصفحة والدبابات التي سنحتاج إليها في كل شارع والأماكن التي سنتولى حراستها لحماية الثورة.
{ كنا نريد حمايتهم
وقررنا في هذا الاجتماع أن نضع حراسة على منازل السياسيين القدامى يوم الانقلاب وأن نمنعهم من مغادرة دُورهم، ولم تكن هذه الحراسة لأننا نخافهم بل كانت لحمايتهم من غضب الشعب، كانت الجماهير ستفتك بهم يوم الثورة، وكنا نريدها ثورة بيضاء بلا دماء، إننا لا نريد القتل ولكننا نريد إصلاح الأمور، نريد رفاهية الشعب فقط.
وبدأنا نحدد الثورة بالأسماء والأرقام، فرقة كذا بقيادة فلان ستتحرك إلى نقطة معينة في ساعة محددة وفرقة أخرى تتولى حراسة المنشآت وهكذا لم يكن أحد يعلم بهذه الخطة إلا نحن قادة الثورة ال13 ضابطاًَ، كنا وحدنا فقط الذين نعرف كل شيء، ولم يكن أي ضابط في الجيش عنده أي معلومات على الإطلاق، كان على كل واحد منهم أن ينفذ الأوامر التي تصدر إليه والضباط لهم ثقة عمياء بقائد الجيش، وانتهى إعداد الخطة في 3 أسابيع كنا نعد ونراجع ونضيف ونحذف ونجد احتمالاً ثم نعدل عن هذا الاحتمال، كنا نناقش الخطة بدقة لنحاول سد أي ثغرة فيها انتهى وضع الخطة وبدأ العمل لتنفيذها.
كان أمامنا أسبوعان للتنفيذ فقط وكان أمامنا عمل كبير، كان يجب أن يتم نقل القوات بسرعة ويجب أن يكون كل قائد في قيادته في المنطقة التي سيشرف منها على الانقلاب حتى يمكنه في ساعة الصفر أن يبدأ التحرك، قواد الجنوب يجب أن يكونوا في مراكزهم قبل حدوث الانقلاب وأن تكون قواتهم كاملة السلاح ومستعدة لأي طارئ، قواد المنطقة الشمالية أيضاً يجب أن يكونوا في مراكزهم، ثم الخرطوم العاصمة التي يجب أن تتركز فيها قوات كبيرة لأنها أهم نقطة في الانقلاب.
{ نقل الجنود للخرطوم
وبدأ نقل الفرق بهدوء من الجنوب والشمال إلى الخرطوم، إنني لن أسجل هنا عدد القوات التي استخدمناها في الانقلاب لأن هذا سر عسكري ولكني أسجل في مذكرتي أنه قام بتنفيذ الانقلاب في شوارع الخرطوم أربعة آلاف جندي وأربعون دبابة وسيارة مصفحة وأن الاحتياطي الذي كان موجودًا داخل الثكنات لمواجهة أي طارئ كان احتياطياً كبيراً ويكفي لكل شيء، الأسبوع قبل الأخير قبل الانقلاب، كان الموقف يغلي.. الأعمال لا تتم عامة، لقد كنت أستمع إلى شكاوى الشعب وصدري يغلي، كنت أتمنى لو استطعت أن أصرخ فيهم إننا سننقذكم، إننا لن نترككم، إن الجيش هو الشعب والشعب هو الجيش، ولكن القسم الذي أديته على المصحف وكتمان السر لنجاح الانقلاب كانا يمنعاني من الصراخ، كنت أريد أن أقول ومازلت أريد أن أقول للناس إنني لا أطمع في حكم ولا أريد مركزاً كل ما أريده هو سعادة شعب ونهضة أمة.
وكنت أنظر حولي في البلاد التي تعيش في نفس ظروفنا فأجد أن الانقلابات العسكرية قد أفادتها وأنها تقدمت بها إلى الأمام خطوات سريعة عاجلة، في مصر حدث تقدم بعد الانقلاب وكذلك في العراق وكان إيماني بالثورة يملأ دمي ويريد أن يخرج ليخبر كل مواطن بما يحدث.
{ تعطيل الانقلاب «24» ساعة
وبدأ نقل الفرق إلى الخرطوم وهنا حدثت المفاجأة التي عطلت الانقلاب لمدة 24 ساعة لقد استُدعيت بعض الفرق من القيادة الوسطى والقيادة الشرقية لتعزيز حماية الخرطوم، ولكن هذه الفرق ولأسباب خاصة بالنقل والطرق تأخرت «8» ساعات وقررنا تأجيل الانقلاب 24 ساعة بأن يتم يوم 17 بدلاً من يوم «16» بسبب تأخير نقل الفرق اللازمة من أجله، وكانت الساعات تمر بطيئة قبل الانقلاب ولكني كنت سعيداً، كنت أشعر كإنسان سيرد الجميل لشعبه وأمته، أحس أنني أقوم بالواجب الذي أقسمت من أول يوم على أن أؤديه لم يكن الوضع هو قلب حكومة شرعية بل كان الوضع هو إحضار الحكومة التي يرضى عنها الشعب، وبدأ كل شيء يسير في طريقه المرسوم، وقررت أن أترك منزلي قبل الانقلاب ب «24» ساعة وأن آخذ زوجتي وأولادي وأذهب بهم إلى منزل والد زوجتي، إنني لم أكن أعرف ماذا سيحدث ولم يكن يهمني ماذا سيحدث، إنما كل الذي كنت أهتم به هو أن يكونوا هم بعيدين عن كل شيء.
وهنا أقف قليلاً من الأحداث المتراصّة التي تريد أن تسجل لأقول إن عائلتي هي أغلى شيء في وجودي، ولكن في هذه اللحظة تلاشى كل شيء ولم يكن هناك سوى كلمة واحدة مقدسة، إنها إنقاذ الوطن.. الله معنا.
واستطعت أن أقنع عائلتي بالرحيل، حاولوا معرفة السر فرفضت قلت إنني مشغول، افتتاح البرلمان وحالة طوارئ ولا أحد يعرف ماذا سيحدث، قالوا لقد افتُتح البرلمان قبل ذلك عدة مرات فلم تتخذ مثل هذا الإجراء فلماذا تفكر فيه الآن؟ قلت إن الحالة هذه المرة أقسى من الحالات السابقة، وأخيراً استطعت أن أقنعهم بأن يأخذوا ملابسهم ويذهبوا عند والد زوجتي، ووضعت الخوذة على رأسي وقلت لقد بدأ العمل، إن الله معنا، إنه لا يريد لهذا الشعب الضيم، يريد أن ينقذه لأننا شعب طيب تقي صريح وحتى هذه اللحظة قبل الانقلاب ب24 ساعة لم تكن ساعة الصفر قد حُددت، كان اليوم محدداً وتم تأجيله «24» ساعة كما كتبت، ولكن ساعة الصفر نفسها لم تكن محددة، وجلسنا نتداول في ساعة الصفر وكان الضباط والجنود جميعاً في ثكناتهم بملابس الميدان والأسلحة، والسبب الظاهر طبعًا البرلمان، لقد تحولت الثكنات الهادئة إلى معسكر حربي كبير، وجلسنا نفكر هل نجعل ساعة الصفر الرابعة صباحًا أو نجعلها منتصف الليل، وبدأنا نحسب الوقت الذي ستستغرقه العمليات الحربية، ثم قررنا أن نجعلها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أي يبدأ تحريك الجنود من ثكناتهم إلى المواقع المحددة في الخطة في الساعة الثانية تماماً ويتم كل شيء قبل الرابعة والنصف صباحاً لقد كانت العمليات سريعة ومحددة وكل واحد محدد له دوره بدقة، الأماكن التي سيحرسها، طريقة الحراسة وعدد القوات، كل ذلك كان مسجلاً دقيقة بدقيقة.
{ آخر 24 ساعة قبل الانقلاب
وهنا أترك المذكرات لل24 ساعة التي قبل الانقلاب إنها آخر صفحة دوَّنتها وآخر ما خطّه قلمي فيها، أما بعد ذلك فإن العمل المتواصل منعني من تسجيل ما حدث، ويومًا بعد أن تتحسن الأحوال سأجلس إلى مذكراتي مرة أخرى لأدون فيها بالحبر ما تمت كتابته بالدماء على صفحة الحياة، لقد كانت ال24 ساعة قبل الثورة هي أدق اللحظات التي مرت في حياتي، لم أكن أخاف أن يكتشف تدبير الثورة، ولكن كنت أخشى أن يحدث أي شيء من أي فرد غير مقدر للمسؤولية، وجلست وكان معي عدد من قادة الثورة أما الباقون فكانوا في مراكزهم في القيادات الأخرى لتنفيذ الأوامر.
{ خطابات الإقالة للحكومة السابقة
وبدأنا نعد خطابات الإقالة لأعضاء مجلس السيادة والوزراء، كنا نريد أن نكتبها على الآلة الكاتبة وفي مظروف أنيق لنعطيها لهم، ولكننا أردنا المحافظة على السرية التامة فيها ولذلك قررنا كتابتها بخط اليد وفكرنا أن تصدر الخطابات برسم مجلس الثورة، ثم عدلنا عن ذلك لأن مجلس الثورة لم يولد رسميًا وقررنا أن تصدر باسم قيادة القوات المسلحة وفي دقائق كنا قد اعددنا صيغة الخطاب لقد رأينا أن تكون صيغة مهذبة وهذا نصها: «إنها تبدأ أولاً بالاسم، ثم تخطركم القيادة العامة للقوات المسلحة بالاستغناء عن خدماتكم في الوزارة أو مجلس السيادة، حسب مركز المكتوب له الخطاب، وهي تشكركم على ما بذلتموه من خدمات، والإمضاء قائد القوات المسلحة الفريق: إبراهيم عبود».
وبدأت أكتب الخطابات لأعضاء مجلس السيادة الثلاثة ورئيس الوزراء والوزراء، كنت كلما انتهيت من كتابة خطاب أضعه في ظرف ثم يختم بالشمع الأحمر بختم القيادة العامة للقوات المسلحة، وأعددت «15» خطاباً للوزراء وأعضاء مجلس السيادة وانتهى إعداد الخطابات لتبدأ مهمة أخرى، إنها مهمة اختيار الضباط الذين سيحملون خطابات الإقالة ويسلمونها لأصحابها واختيار الوقت الذي ستسلم فيه الخطابات، لقد قررنا أن يحمل الخطابات ضابط كبير حتى يستطيع التصرف بسرعة وحتى يكون اختياره لائقاً بخطورة المهمة التي سيقوم بها، واخترنا ضابطين برتبة قائم مقام.
وكانت الفكرة الأولى أن يتم تسليم الخطابات بعد إعلان نبأ الانقلاب رسميًا، ولكنا قررنا أنه يجب أن تتم إقالة الحكومة القديمة أولاً قبل أن تعلن الحكومة الجديدة، لذلك تقرر أن يتم تسليم الخطابات لأعضاء مجلس السيادة والوزراء ورئيس الوزراء قبل الساعة السادسة والنصف، وهو الوقت الذي حددته لإذاعة بياني على الشعب من الإذاعة بأم درمان إنها أول مرة أدخل فيها الإذاعة وأتحدث في الميكرفون للجماهير، لقد كنت قبل ذلك أذيع رسائل للضباط والجنود في المناسبات ولكن كانت تسجل في مكتبي على شريط ثم تذاع ولم أدخل الإذاعة قط قبل يوم الثورة لأتحدث إلى الجماهير وكانت الساعة قد بلغت العاشرة مساء، كل شيء قد تم إعداده وباق على البدء في الانقلاب «4» ساعات كاملة.
{ العمل بسرعة
وأنتهزت هذه الفرصة للاتصال بقيادات الجيش في مختلف أنحاء السودان لمعرفة مدى استعدادها للقيام بالعمل، وجدتها كلها مستعدة للعمل بسرعة، لقد أعد كل قائد جنوده، أعطاهم السلاح وألبسهم ملابس الميدان ووقفوا على استعداد للتحرك في الدقيقة التي تصدر لهم فيها الأوامر، والدقيقة هي ساعة الصفر الساعة «2» صباحاً، وقررنا أن يتم الاتصال بين وحدات الجيش خلال فترة تنفيذ الانقلاب باللاسلكي، لأن التليفونات ستُقطع واللاسلكي أضمن وأسرع الطرق في الاتصال والاحتفاظ بسرية الاتصالات.
وبدأت الاتصالات السريعة التجريبية وبين أن جميع وحدات اللاسلكي ستكون مستعدة للعمل في ساعة الصفر وإنها ستبقى متصلة ببعضها طوال فترة الانقلاب لتكون شبكة لاسلكية تصل جميع الوحدات بعضها ببعض.
{ ساعة الصفر
كانت الساعة منتصف الليل وقررت أن أخرج إلى الخرطوم لأستطلع الأحوال لنفسي حتى أعرف هل تسرب خبر الانقلاب أم لا لأن تسرب الخبر قد يؤدي إلى نتائج لا نريدها أن تحدث، ووجدت شوارع الخرطوم هادئة، المرور فيها قليل كما هو الحال دائماً خلال هذه الفترة من الليل الناس الباقون في الشوارع يسرعون إلى منازلهم، المحال العامة والمقاهي بدأت تغلق أبوابها، لا أحد يحس أبداً بأن انقلاباً سيحدث بعد ساعتين وأن عهدًا سيزول وعهدًا جديداً سيبدأ وظللت نصف ساعة أتجول في شوارع الخرطوم الهادئة ثم عدت إلى الثكنات وبدأت العمل فوراً.. اجتمعنا لآخر مرة وراجعنا الخطة النهائية للانقلاب خطوة خطوة ثم بدأت الأوامر التمهيدية للقوات والاستعداد للتحرك وبدأت المعسكرات كخلية نحل، الجنود اصطفوا بجانب اللوريات التي ستحملهم إلى أماكنهم المحددة في الخرطوم إنهم يلبسون الخوذات ويحملون السلاح، جنود الدبابات والسيارات المصفحة وقفوا بجانب سياراتهم، الضباط على استعداد للتحرك في أي دقيقة، ونزلت أنا إلى الثكنات وطفت على الجنود بسيارة جيب، لقد كان كل منهم يحمل بطانيته وكأنه ذاهب إلى ميدان القتال، البنادق مليئة بالرصاص خزانات الرصاص الاحتياطية مملوءة وموضوعة في جيوب الجنود والخوذات على الرؤوس تعطيك فكرة أننا مقدمون على حرب حقيقية.
وكان كل شيء قد تم إعداده ببراعة والخطة ستنفذ كما وُضعت تماماً بلا أدنى تغيير، وجاءت ساعة الصفر الساعة الثانية صباحاً وصدرت الأوامر للضباط والجنود بالتحرك فوراً، سلمت الأوامر لكل ضابط، المنطقة التي سيذهب إليها، المكان الذي سيعسكر فيه، ماذا يفعل إذا واجهته ظروف مفاجئة، كان كل شيء معداً وأمام الضابط الأوامر للتصرف ومواجهة كل الاحتمالات، وبدأت الطوابير الضخمة تخرج من مبنى وزارة الدفاع، أهم الجنود يحملون السلاح، لقد بدأت الثورة.
الفريق إبراهيم عبود.
نقلاً عن صحيفة أخبار اليوم السودانية الصادرة بتاريخ 17/11/2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.