المتابع للصحف في الفترة قبل 25 مايو 1969 ودخول السودان في حكم نميري، يلاحظ أنه كان هناك حراك سياسي يوحي بأن الجو كان قد تهيأ لقيام ثورة شعبية، فقد أوردت صحيفة الصحافة 21مايو خبراً بأن الاتحاديين قرروا بشكل نهائي عبر المكتب السياسي والهيئة البرلمانية فض الائتلاف وترك الحزبين الآخرين ينفردين بالحكم.. إن البلاد آل حالها ومجريات الأمور فيها الى مدى بلغ العبث والاستهتار- على حد قول الأستاذ عبد الرحمن مختار- قائلاً مزيداً وكثيراً من الصبر، وهي عبارات توحي بما آل اليه حال البلاد.. وفي 22مايو 1969 كان المقال الافتتاحي للصحيفة قد أشار الى أن الحكومة الحالية قد جُمدت ولجنت باتفاقها مع الحزبين الكبيرين، فأصبحت بلا قدرات وبلا فعالية، والحدث أن هذا الاحساس يلمسه المواطنون في كل أنحاءالسودان، في إشارة واضحة لم تفهمها الحكومة القائمة في ذلك الوقت، بأن ساعة الصفر قد اقتربت، ووصفت الصحافة ما يحدث الآن بالخطر القادم، إذا لم تراجع الحكومة حساباتها. ثم في 24 مايو أعلن حزب الأمة القومي- على لسان الأمين العام للحزب الصادق المهدي- أنه رغم شراكته في الحكومة لا يثق بها، مشيراً الى عدد من القضايا كانت تشغل الشارع السوداني، وقال الإمام الصادق المهدي إنه يطالب الحكومة بحسم الأمور بسرعة، بل ذهب الى أبعد من ذلك، حيث هدد بأنه في حالة فشل الحكومة سيقومون بإعداد البديل، وهذا حتماً كل ما حدث، وتبعته مشاكل اقليمية خاصة في اقليم كردفان، الذي فقد عامل الأمن نهائياً، الأمر الذي جعل قياداته تلجأ الى الصحف مطالبة الحكومة بضرورة التحرك.. يشير الى أن المسرح السياسي كان مهيأ لقيام ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، وهو ما جعل السودانيين يهتفون «بركة الجيت بركة الجيت» وطلق الشعب السوداني الأحزاب بالثلاثة، ورأى في الحكم العسكري بوابة رفع المعاناة، فقبل، وإن كان المقابل بيع الديمقراطية. قصة الثورة كاملة أوردت صحيفة الجمهورية القاهرية أسراراً وتفاصيل مهمة لثورة 25 مايو، التي قادها تنظيم الضباط الأحرار الذي أطاح بحكم الأحزاب في صبيحة الرابع والعشرين من مايو، ليعلنوا قيام الحكم العسكري في السودان.. في عصر السبت 24 مايو تم التنسيق النهائي لكل شيء، وتحددت ساعة الصفر، وكانت الخطة هي التقاء المظلات والمدرعات والدخول الى العاصمة، وتنفيذ كل التكليفات على الفور في و قت واحد، وقد حدد الموعد لدخول العاصمة الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، على أن ينتهي كل شيء في الساعة الثالثة صباحاً، وكان أكثر ما يقلق الضباط الكبار هو حماسة الجنود التي قد تؤدي الى انكشاف أمرهم.. والمهام الأساسية بعد دخول العاصمة هي ثلاث: الأولى اجراء الاعتقالات، وتأمين الدخول هو المهمة الثانية، واستلام رئاسة القوات المسلحة هي المهمة الثالثة.. والمهمة الأولى وهي الاعتقالات السياسية والعسكرية كان الترتيب لها عبر اتصالات داخل العاصمة وخارجها.. حيث كانت كل الاتصالات تجري بكلمة السر المتفق عليها، والتي أصبحت فيما بعد شعار الثورة وهي «المجد لنا»، ودخل ثوار مايو الخرطوم دون أي مقاومة وتسلموا الإذاعة والتلفزيون، ورئاسة القوات المسلحة بدون قطرة دم واحدة- على حد قول الرائد خالد حسن عباس أحد الضباط الأحرار وقيادات الانقلاب. وقد كان مجلس قيادة الثورة مختار مسبقاً منذ أيام التنظيم السري للضباط الأحرار، وعدده أقل من 50 ضابطاً، أما أعضاء مجلس الثورة ليلة الأحداث هم المقدم بابكر النور عمره 35 عاماً، وكانت مهمته الاشتراك في الاستيلاء على رئاسة القوات المسلحة، وواجباته داخل الرئاسة هي الاعتقال والتأمين.. أما الرائد أبو القاسم هاشم وعمره 33 عاماً من سلاح الإشارة فمهمته قطع الاتصالات التلفونية في الداخل، وبين السودان والخارج، واستمر انقطاع الاتصالات حتى مساء يوم الأحد 25 مايو، وقد كانت القوى التي قطعت الاتصالات هذه أول دفعة تصل الخرطوم في الساعة الثانية والربع صباحاً.. والرائد مامون عوض أبوزيد كان يعمل في الاستخبارات للتنظيم السري، ويجمع معلومات دقيقة ويضعها أمام التنظيم، مما ساعد على تحركات القوات المسلحة، وهوأحد الذين وضعوا الخطة الدقيقة لدخول الخرطوم.. والرائد زين العابدين محمد من سلاح المظلات كانت مهمته اعتقال قائد سلاح المدرعات العميد عبده حسن، ومدير الامداد والتموين، وقائد حامية الخرطوم، ووضع الحراسة على منزل الشريف حسين وزير المالية الأسبق. الرائد فاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية لحكومة مايو، كان ضابطاً عاملاً، وأبعد من الجيش في حلقة الاتصال طوال الإعداد بين بابكر عوض الله وبين ضباط الجيش، وكان يتحدث معهم تليفونياً باسم حركي، وهو الذي ذهب الى منزل بابكر عوض الله ليلة الأحداث في الساعة الثانية صباحاً بمجرد بداية العملية، واصطحبه معه الى قيادة القوات المسلحة، وتولى الاتصال بمدير البوليس الجديد على صديق. اللواء جعفر النميري رئيس مجلس قيادة الثورة، والقائد العام للقوات المسلحة، قاد المجموعة التي كلفت باحتلال وتأمين رئاسة القوات المسلحة وأشرف طوال الوقت- بعد ذلك- على قيادة جميع العمليات حتى أذاع أول بيان باسم النظام الجديد.. استغرقت عملية الاستيلاء على قيادة القوات المسلحة بضع دقائق، وكان الفضل في ذلك يرجع لعنصر المفاجأة الذي يمثل الأثر الأول في انجاح العملية. وفي صبيحة يوم 25 مايو، وفي السادسة صباحاً أذاعت أم درمان بيان نجاح ثورة مايو، وبداية الحكم العسكري الجديد، ونشرت صحيفة السودان الجديد خطاب السيد رئيس الوزراء بابكر عوض الله، مخاطباً المواطنين، واصفاً المرحلة الآن بالحاسمة من مراحل كفاحنا المر ضد الرجعية والاستعمار، وأن الثورة جاءت لتحرير الوطن من كابوس الحزبية، التي وصفها بالبغيضة الذي مجته النفوس وكرهته كل الاتجاهات، وأشار عوض الله، ووصف بابكر عوض الله في خطابه الجماهيري ثورة اكتوبر «بالانتكاسة» قائلاً: إن فشلها كثورة ليس سببه عدم إيمان هذا الشعب بمبادئها، ولكن كان نتيجة من أسماهم بقوى الرجعية والاستعمار الذين سعوا الى إعادة وجه الحزبية البغيضة، مضيفاً بالقول لأنها أرادت تهيئة المناخ السياسي المتعفن، الذي لا تستطيع جراثيم الاستعمار إلا أن تتنفس فيه.. وأكد بابكر عوض الله أن ثورة مايو 69 الملتحمة مع ثورة 21 اكتوبر 1964، شاءت إرادة الله أن تنتصر قائلاً: إن الأحزاب حاولت بقدر الامكان إخماد نار الثورة التي هي الآن تحمل على أكتافها مسؤولية تحقيق آمال هذا الشعب، الذي عاش ست سنوات عجافا، ووعد عوض الله الشعب السوداني بأن تكون مايو هي الخلاص من كل براثن التعددية الحزبية، من فساد، ومحسوبية، ورشوة.. مشيراً الى أن الحكومات الحزبية فشلت في تحقيق التنمية للبلاد، وظلت معزولة عن الجماهير دائماً، وقد ركز عوض في أكثر من موضع على أن التعددية الحزبية ما هي إلا بوقاً للاستعمار، بل ذهب الى أبعد من ذلك.. حيث قال إنها مكنت الاستعمار من إيجاد موطئ قدم في أرض السودان قائلاً: «لقد رُهنت بلادنا ببضع جنيهات لدول الاستعمار، وعن مقاومة اليمين فقد ورد في صحيفة السودان الجديد، أن اليمين قد استخدم كل الأسلحة لمحاربة ثورة مايو، وعندما فشل ووجد نفسه حائراً- على حد وصف الكاتب صديق محيسي- فإنه لجأ لحرف الثورة عن مسارها الحققي، وقد جرب في ذلك أساليب مختلفة، منها الإشاعة وتحريض الجماهير، والتهديد المكشوف وغير المكشوف.. وقال: إن الشعب فوت عليهم الفرصة بالتفافه حول ثورة مايو، وقطعت الطريق أمام أعداء الاشتراكية- على حد قول كاتب المقال- والأمر يؤكد أن مايو في بداياتها كانت تستند الى اليسار، وبعد هذا الخطاب دخل السودان فترة حكم عسكري جديد، بعد انهيار حكومة عبود بثورة اكتوبر، والتي ردد الشعب عبارات «ضيعناك وضعنا»، وهم يحملون الفريق على اكتافهم بعد مرور أشهر من الثورة، وقابل الشعب السوداني بعد اكتوبر مايو بفرحة، جعلتهم لا يلتفتون الى الأحزاب التي أججت نار اكتوبر، مؤكدين بذلك حقيقة رددها البعض بصوت خافت، إن المشاريع التنموية لم تحقق إلا في عهد الأنظمة العسكرية. نص بيان السيد محمد عثمان الميرغني المؤيد لنميري وثورته المنتصرة نشرته صحيفة السودان الجديد. لقد كانت المبادئ التي أعلنها السيد رئيس مجلس قيادة الثورة، والسيد رئيس مجلس الوزراء في اليوم الخامس والعشرين من مايو 1969، فيما يتعلق بالاتجاه العربي، والنظر الى المرحلة الراهنة التي تجتازها أمتنا العربية، هي المبادئ التي نؤمن عليها، وستجد منا التعضيد والمساندة وقد التزمنا دائماً بالعمل على تحقيقها، وإن التلاحم القوي بين اسلاميتنا وعروبتنا هو منطلقنا الى المستقبل وفق القائمين بالأمر، لتحقيق الاستقرار المنشود للبلاد في ظل مجتمع الكفاية والله المستعان. هذا نص البيان الذي قيل إنه كان سبب سوء العلاقات بين الاتحاديين الأشقاء، بقيادة الزعيم الأزهري والاتحاديين الختمية بقيادة محمد عثمان الميرغني، وقيل إن الميرغني كان قد تنكر لهذا البيان الوارد في الصحف.