لم يعد بوسعنا بعد التعب الذي أصابنا إحصاء الشهداء والجرحى، فيما نجهل تمامًا أعداد المعتقلين الذي يزيدون عن عشرات الآلاف يعيشون الموت يوميًا في سجون بشار الأسد، لم يعد بوسعنا غير إحصاء المجازر لأن إحصاءها يبدو أسهل، فيما شعرنا بالتعاطف مع السيد كوفي أنان!! بسبب الصدمة التي تعرض لها نتيجة المجزرة الأخيرة في بلدة التريمسة التابعة لمدينة حماة، وهي التي تمكن مراقبوه من دخولها بعد «13» ساعة على ارتكاب المجزرة ليشاهدوا الحقيقة التي اضطرته للحديث صراحة عن عدم التزام قوات بشار بوقف استخدام الأسلحة الثقيلة في قصف المناطق السكنية، مع أن المجزرة تمت بمشاركة الطيران هذه المرة، فيما أكمل الشبيحة مهمة الذبح على الأرض. من الطبيعي أن يخرج علينا شريف شحادة الذي كوفئ على جهوده الجبارة في الدفاع عن النظام عبر الجزيرة وسواها بعضوية مجلس الشعب، من الطبيعي أن يخرج علينا موضحًا أن الجماعات الإرهابية هي التي ارتكبت المجزرة، مشددًا على التزامن التقليدي للمجازر مع جلسات لمجلس الأمن، مع أن الجماعات إياها ليست من النوع الذي يهتم بجلسات مجلس الأمن ولا يتابع بالضرورة مواقيتها ولا قراراتها!! ربما كان محقًا في السؤال عن مصلحة النظام في ارتكاب مجازر من هذا النوع، لكنه ينسى أن المجاميع العسكرية التي تمارس القصف والقتل لم تعد تملك غير ذلك بعد أن أصبحت كلفة الاقتحامات المباشرة كبيرة بسبب استبسال الثوار، فيما يتجاهل أن جحافل الشبيحة المعبئين بالحقد الطائفي لا يُستغرب عليهم أن يفعلوا أكثر من ذلك، هم الذي ينتمون في الأصل إلى حثالة البشر. والحال أن إسكات المدن والبلدات الثائرة بشتى أنواع الأسلحة لم يعد مجرد خيار بالنسبة للنظام، وإلا فإن المناطق التي يفقد سيطرته عليها ستواصل الاتساع يومًا إثر آخر، وهو يعول من خلال مضاعفة أدوات العنف على إسكات المناطق الثائرة وإخراج الثوار منها وإعادتها إلى سيطرته. وعندما يضطر، للمرة الأولى يوم الخميس الماضي إلى تنفيذ سياسة الأرض المحروقة بحق بساتين في ضواحي دمشق من أجل إخراج عناصر الجيش الحر منها، فهو إنما يدافع عن حصنه الأخير الذي يتعرض لمحاولات يومية لاقتحامه من قبل الثوار. صحيح أن قلب مدينة دمشق لا يزال هادئًا بعض الشيء، تمامًا كما هو حال قلب مدينة حلب، لكن ذلك لا يحدث إلا بسبب ضخامة الحشد الأمني داخلهما، وتبعًا لوجود علويين إلى جانب أقليات أخرى تصطف إلى جانب النظام، مع قلة من المنتفعين من أبناء السنة. حين يدقق المراسلون الأجانب في المشهد، فإنهم يرون عاصمة حبلى بالغضب كما عبر مراسل واشنطن بوست، مستدلاً على ذلك بجدران المدينة التي تزدحم بالشعارات المعادية للنظام، وبالمسيرات الطيارة التي تبدأ وتختفي سريعًا خشية الاعتقال الذي يُعد في ذاكرة السوريين أسوأ كثيرًا من الموت. ويشير إلى أن أهل المدينة يعيشون المأساة بأم أعينهم عبر عشرات الآلاف من الهاربين إليها من الضواحي فرارًا من الموت، وأكثرهم من النساء والأطفال. نعود إلى المجزرة البشعة التي تعلمنا من سابقاتها أنها تستجلب قدرًا من التعاطف الدولي الذي ما يلبث أن يتبخر بمرور الوقت ليعود الكلام التقليدي عن الحل السياسي، وحيث يميل المجتمع الدولي، وغالبًا مجاملة للطرف الإسرائيلي إلى إطالة أمد المعركة من أجل تدمير البلد وإشغاله بنفسه لعقود، وصولاً إلى الحل السياسي الذي يفترض أن يسبق الحسم العسكري بفترة قصيرة حتى لا يقع البلد بيد فئات تصعب السيطرة عليها. نقول ذلك لأن حشر الأزمة فيما يفعله كوفي أنان ينطوي على تجاهل لحقيقة أن الرجل لا يتحرك من تلقاء نفسه، حتى حين يزور طهران وبغداد بعد موسكو، بل يتحرك بالتنسيق مع الوضع الدولي والعربي الذي يعمل مبعوثًا له لحل الأزمة السورية. هو نفاق استثنائي لا يكسره سوى الموقف التركي الذي يميل إلى الحسم العسكري، مع دعم قطري سعودي، مع أن عموم الموقف العربي لا يبدو مريحًا تبعًا لاستمرار منحه الغطاء لمهمة أنان التي لم يعد لها مكان في المشهد خارج سياق التآمر من أجل سرقة الانتصار لحظة التأكد من قرب تحقيقه، وهو يبدو قريبًا بالفعل في ظل توالي الانشقاقات في صفوف النظام «عسكريًا وسياسيًا» وفقدانه السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد. لذلك كله لا يبدو أمام السوريين غير استمرار الجهد والجهاد من أجل الحسم الثوري، ولن يتم ذلك من دون مزيد من تفعيل العمل العسكري، والأهم استمرار العمل الشعبي، بخاصة في مدينتي حلب ودمشق اللتين ينبغي أن تنخرطا أكثر فأكثر في الاحتجاجات وصولاً إلى عصيان مدني شامل يسقط النظام الذي يزداد ترنحًا يومًا إثر آخر، فيما يزداد اعتماده على طائفته كملاذ أخير في المواجهة.