المفاوضات الجارية الآن بين الحكومة السودانية وحكومة دولة جنوب السودان حول قضايا غير التي ظلت عالقة قبل انفصال اقليمالجنوب، يمكن تفسيرها بأكثر من وجه، لكن في اعتقادي أن الوجه الأرجح لتفسيرها هو أن ارتباط حكومة جوبا بالأجندة الإسرائيلية والغربية مقابل الصداقات والتحالفات مع القوى الأجنبية، هو الذي فجَّر هذه القضايا الجديدة المختلفة مثل مشروع الحريات الأربع بعد نتيجة استفتاء كادت تكون كاملة مما يعني عدم ملاءمتها في الوقت الحاضر على الأقل، ومثل النزاع حول مناطق سودانية كانت شمالية قبل الانفصال وأصبحت جنوبية بعده، أي في جنوب جمهورية السودان الثانية «يوليو 2011م».. مثل «14ميل» وهجليج وسماحة.. وإذا كان السودان بعيداً من خريطة التطبيع مع إسرائيل، فها هو الآن بعد انفصال الجنوب وارتمائه في الحضن الصهيوني ليكون امتداداً داخل إفريقيا لدولة الكيان الصهيوني، بعد كل هذا أصبح السودان وكأنه من «دول الطوق» كما كانت تسمّى قبل اتفاقية كامب ديفيد وأيام الجهاد ضد الاحتلال والعدوان اليهودي على «الوطن العربي». ودول الطوق المقصودة هي مصر ولبنان وسوريا والأردن، ووجود إسرائيل في جنوب السودان «الدولة الجديدة».. فهذا يمكن أن يعني إضافة السودان لدول الطوق. فقد تمطت إسرائيل بنفوذها إلى حدود عام 1956م.. وأصبح وجودها في دولة جنوب السودان أسوأ من جوارها لمصر في حدود الأخيرة الشرقية. وهنا سؤال مهم لعشاق «الوحدة المدحورة»: هل أفضل أن تكون إسرائيل موجودة في إقليمالجنوب داخل السودان ما قبل الانفصال أم في دولة جنوب السودان الجديدة؟! إن وجودها في إقليمجنوب السودان قبل يوليو 2011م يعني وجودها في السودان، ولا تكون في هذه الحالة محتاجة إلى «حريات أربع» لتتآمر من خلالها على الدولة كلها من حلفا إلى نملي. ولاحظ الآن تحمُّس الحركة الشعبية للحريات الأربع بعد نتيجة انفصال قياسية أكثر من تحمسها للقضايا العالقة قبل الانفصال. وهذه الملاحظة يمكن أن تعزز أكثر وجه التفسير الذي رجحناه هنا آنفاً. وإسرائيل مثل الشيطان لا تتحرك بعناصر يهودية لكن يمكن أن تحرِّك جواسيس لها يتمتعون بالحريات الأربع، وفي هذه فإن عناصر من الحركة الشعبية موجودة الآن بإسرائيل إذا لم يكونوا قد غادروها فجر أمس. إذن بعد الانفصال الذي احتفلت به الحركة الشعبية أيما احتفال ثم بعد تحمسها للحريات الأربع وكأنها ذرفت يوم إعلان الانفصال دموع الحسرة على الوحدة، بعد هذا وذاك يمكن أن يضاف السودان بطريقة غير مباشرة إلى «دول الطوق». وهذا بالطبع أفضل من أن تكون دولة الكيان الصهيوني صاحبة وجود بداخله في حالة استمرار الوحدة التي غمرتها أمواج نسبة الانفصال.. أكثر من 98% كانت نسبة التصويت لصالح الانفصال، ترى هل أرادت الحركة الشعبية أن تكون الحريات الأربع لأقل من 2%؟! والأمر غير متعلق بالمواطن الجنوبي وهو ليس محور اهتمام حكومة جوبا، فقد اوقفت هذه الحكومة ضخ النفط بعد أن أصبحت قياداتها من الأثرياء بعائداته لتترك المواطن يزداد فقراً لصالح سياسات إسرائيل وغيرها، فهو ضحية المشروعات التآمرية اليهودية والغربية. ولكن ما ذنبه؟!. لقد صوت للانفصال لتجد الحركة الشعبية دولة مستقلة تحكمها، فهل هذا جزاؤه منها؟! أما إسرائيل التي وضعت السودان في قائمة دول «الطوق» بعد مد نفوذها إلى جنوب السودان، فكأنها تريد أن تنتقم من السودان الذي حاربها ضمن الجيش العربي في الستينيات من القرن الماضي، والذي طرح اللاءات الثلاثة، والذي ناصر القضية الفلسطينية بقوة.