الآن تشهد الصومال تحولاً قد يختلف الكثيرون حوله، لكنه يبقى نوعيًا حيث عبر بها من المرحلة الانتقالية التي ظلت طابعًا للدولة طيلة السنوات الماضيات إلى مرحلة قد تكون أساسًا لاستقرار سياسي جدير بأن ينعكس على كل الأصعدة.. وسواء استطاعت تلبية احتياجات هذا التحول الذي ربما يمكن أن يطلق عليه تحولاً ديمقراطيًا بالأخذ في الاعتبار الطريقة التي تم بها، أو لم تستطع نظرًا للكثير من المعوقات الأساسية، فإن الأمر يظل تحولاً تاريخيًا وهو ليس للأسوأ على أي حال قياسًا على ما ظلت البلاد تتعرض له طيلة العقدين الماضيين.. ففوضى الممارسة السياسية التي كانت طابع الحكم الانتقالي انعكست آثارها السلبية على القيمة الفعلية للدولة فأفقدتها وجودها وحرمت الصومال من فرص حقيقية لخلق واقع كان له أن يصنع فارقًا لصالح بلاد تمتلك كل مقومات الريادة، وجعلت عاصمة البلاد تصنف على أنها إحدى أكثر العواصم خطورة، وأكسبت الدولة الصومالية تصنيفًا يجعلها الأكثر فسادًا على مستوى العالم.. وزاد من حدة الأوضاع الصعبة في هذا البلد الذي هو الأغنى بموارده، التشظي القبلي الذي أضعف مؤسسات الدولة وجعلها خادمة لمتطلبات ونعرات عرقية وقبلية ضيقة ساهمت في تفاقم الكثير من الأزمات وعلى رأسها الأزمات الإنسانية التي أهلكت الآلاف وجعلت من الصومال رافدًا لا ينضب لأعداد مهولة من اللاجئين تمددوا في كل دول الجوار. والأسوأ من كل هذا غياب الفكر السياسي الوطني الذي لازم كل الحكومات السابقة وأدى لهشاشة الدولة واضعاف البنية المؤسسية لها مقترنًا بالتدخلات الخارجية وقد تسبب كل ذلك مقترن بنشوء تطرف فكري عقدي أشعل وما يزال الكثير من الحرائق. إن المهمة التي تنتظر الحكومة المنتخبة هي بكل المقاييس مهمة عسيرة لأبعد الحدود إذا ما كانت جادة في توحيد الصف الوطني والنهوض بالصومال من كبوته فالتشظي الذي تعاني منه يكاد يعصف بكل شيء، ناهيك عن التردي الأمني والاقتصادي وانهيار البنيات التحتية تمامًا.. وربما تكون مفارقة أن الرئيس الجديد لم يكن أبدًا ضمن قائمة المرشحين الذين توقع صعودهم أغلبية المراقبين للشأن الصومالي، وربما تعطي هذه المفارقة مؤشرًا جيدًا حيال العملية برمتها إذ تنفي عنها صفة المؤامرة التي صبغتها بها بعض القوى السياسية الصومالية وأدت لرفضها لمخرجاتها جملة وتفصيلاً، وهو ما أدى لحدوث التفجيرين اللذين استهدفا مقر إقامة الرئيس الجديد قبيل انتقاله للقصر الرئاسي.. إن هناك الكثير من المؤشرات التي ربما تجعل من الرئيس الجديد مختلفًا عما سبقه وبالتالي ربما يكون قادرًا على إحداث فارق في الواقع الصومالي، فهو أكاديمي من الطبقة العاملة ومؤسس لجامعة في الإدارة إضافة لكونه ناشط اجتماعي في العديد من المنظمات، وفوق ذلك فهو رافض للفساد الذي لازم معظم الحكومات السابقة وأهم من ذلك فهو يبدو قادرًا على إدارة حوار عقلاني ومؤسسي مع شباب المحاكم من أجل الوصول إلى صيغة تجنب الصومال المزيد من الانهيار، إذ هو قد اعتمد الأسلوب الفكري الأيديولوجي في خطابه الذي وجهه للقوى السياسية الصومالية بعيدًا عن لغة العنف التي تبنتها الحكومات السابقة والتي قادت البلاد إلى وضعها المأساوي الحالي، والذي يتوجب على كل هذه القوى اغتنام هذه السانحة وبالأخص شباب المحاكم من أجل صنع مستقبل مغاير للشعب الصومالي الذي عانى بما يكفي حتى الآن، فبالإضافة للموت اليومي والنزوح واللجوء فإن الفوضى الأمنية أدت لانهيار اقتصادي كبير ومتسارع أعطى المجال للمنظمات المشبوهة لدخول الصومال تحت شتى المسميات والتغلغل في نسيج المجتمع وتغيير هويته المسلمة المحافظة.. إن محاولة مقاربة المواقف بين علماء الدين الذين اضطهدتهم أكثرية حكومات «الظل» الانتقالية السابقة وزجت بهم في السجون والذي أدى إلى الكثير من التشظي في بنية المجتمع الصومالي المتدين بفطرته، وبين التنفيذيين في الحكومة الحالية هو أكثر المطلوبات إلحاحًا في هذه المرحلة وذلك من أجل وضع دستور يسد رقع جلباب الدولة المهترئ، فالشعب الصومالي بكلياته هو مسلم ولا وجود لديانات أخرى بل لا وجود لمذاهب سوى المذهب الشافعي وهو ما يمثل عامل ترابط مجتمعي كان له أن يكون فريدًا لو بقيت البلاد بمنأى عن التدخل الغربي والإقليمي من دول الجوار كإثيوبيا وكينيا، ولو لم تشتعل حرائق التطرف الفكري التي أضرمت شرارتها الأولى عوامل الاقصاء للوطنيين والولاء للأجنبي ضد الوطن ومواطنيه وأهم من ذلك عقيدته وإسلامه.. وبرغم ذلك وبرغم التشظي السياسي الذي قاد لتشظي اجتماعي إلا أن وحدة المرجعية الفكرية لمعظم الكيانات السياسية يجعل الممارسة تكتسب ميزة إيجابية تتمثل في توحد رؤى هذه الكيانات حول الكثير من الأجندة الوطنية التي تهم الدولة والمجتمع ككل، وهو ما برز جليًا إبان فترة الحكم الانتقالي حيث أثبتت الكثير من الدراسات المجتمعية أن غالبية الشعب كان فكريًا ينتمي إلى المعارضة التي ظلت تعبر عن أشواقه وتطلعاته.. غير أن التركيبة القبلية للمجتمع والتي ترتفع فيها أسهم الأعراق بصورة كبيرة تقلل كثيرًا من تأثير هذا الاتفاق الأيديولوجي على الواقع السياسي الصومالي وهو ما ظل يؤدي في نهاية الأمر ودائمًا إلى إحداث خلل ينسف استقرار الدولة ويلغي فاعلية الدستور. إن الصومال بحاجة ماسة الآن إلى الاستقرار السياسي والوصول بالعملية السياسية إلى مرحلة النضج، والجدير بكل وطنيي الصومال استغلال الاعتراف الدولي بالحكومة الحالية من أجل صياغة صومال معافى من الحروب والفاقة وهو الذي كان طيلة تاريخه من أهم مراكز التجارة العالمية، بل إن مقديشو التي تصنف الآن بأنها من أعنف المدن قد كانت فيما مضى إحدى المنارات الإسلامية على الساحل الشرقي لإفريقيا ثقافيًا وتجاريًا.. وهي بحاجة ماسة الآن للدعم المعنوي واللوجستي من العالم العربي والإسلامي من أجل تحقيق الاستقرار السياسي الذي سينعكس على كل شيء وتقريب المواقف بين الفرقاء وجمعهم على الثوابت الوطنية لقطع الطريق على التدخلات الخارجية التي أشعلت الصومال جحيمًا من العنف والفوضى لعقود.