هذه حكاية من السيرة النبوية.. وحكاية من الشمائل المحمدية.. وهي ليست حكاية حول النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هو منشأها ومبدأها ومنتهاها.. وليست حكاية تدور حول صاحبيه مع أنهما ذُكرا في أولها.. وعطراها بذكرهما لكنها حكاية تدور حول أسرة مسلمة.. حول رجل وامرأة فهما من هدى الإسلام.. فأصبحا يعلمان البشرية.. والحكاية كلها أو جلها تدور حول امرأة لا يكاد التاريخ والمؤرخون وكتاب التراجم يذكرون اسمها.. ولا يكادون يلتفتون إليه ولا يأبهون به. ولكنها تعلم الدنيا.. وترشد البشرية بشيء من قبس النبوة وهدي الإسلام. والحكاية بتصرف من مصدرها الشمائل المحمدية للترمذي تقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى أبابكر وعمر في نهار حار في المدينة.. وتقول الرواية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه من بيته الجوع وكذلك حال عمر فأشار النبي عليهما بالذهاب إلى بيت أبي الهيثم بن النبهان الأنصاري وكان رجلاً كثير النخل كثير الشاء ولم يكن له خدم يخدمونه فلم يجدوه. فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق ليستعذب لنا الماء.. أي يبحث لنا عن ماء عذب للشراب، فلم يلبث أن جاء بعد قليل يحمل قربة، فوضعها وجعل يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته وبسط لهم بساطًا ثم جاءهم بقنو وقال لهم تخيروا من رطبه وبسره والقنو هو العذق أو الغصن من النخل فيه التمر والرطب ودفعه الى ذلك أنه يريد الإسراع إلي إكرام الضيوف الكرام فتعجل ولم يتأنّ حتى يقدم الرطب وحده دون البسر وترك ذلك لهم ليتفكهوا.. وهذا من تمام الكرم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الحالة: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد ورطب طيب وماء بارد وانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً فقال له النبي ولعله لمحه يحمل شقرة: لا تذبحن ذات در. قال فذبح لهم عناقاً أو جدياً والعناق أنثى المعز ولم تبلغ أكثر من أربعة أشهر والجدي ذكر المعز وهو دون السنة في العمر. ثم أتاهم بالطعام فأكلوا وقال له رسول الله هل لك خادم؟ قال: لا. قال فإذا أتانا سبي فأتنا. فأتى النبي برأسين أي غلامين من السبي ليس معهما ثالث. فأتاه أبو الهيثم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختر منهما. فقال أبو الهيثم اختر لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المستشار مؤتمن، خذا هذا فإني رأيته يصلي واستوصِ به معروفاً. فأخذه أبو الهيثم وانطلق به الى امرأته وكأنه يريد أن يبشرها بأنه قد جاء إليها بمن يعينه ويعينها على أعباء الخدمة في البيت. فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. أي بقوله واستوصى به خيراً. ومن عجائب الدنيا ماردت به هذه المرأة على زوجها ولئن سمعه أحدنا لظنها مجنونة وهو قول لا يخطر ببال أحد أن تقوله هذه المرأة إلا أن يكون رجلاً يوحى إليه.. وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم واستوصِ به خيراً أي لا تُتعبه ولا تكلفه ما لا يطيق وأطعمه وأشفق عليه وتلطف في معاملته ولا تضربه ولا تسبه وما إلى ذلك. ولكن الذي خطر على بال هذه المرأة يكاد يكون كما قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: كأنه وحي من الوحي وتنزيل من التنزيل.تصوروا ماذا قالت المرأة لزوجها!! قالت له: »ما أنت ببالغ حق ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه«. هذه المرأة ليست من العشرة.. وليست من السابقين الأولين من المهاجرين ولا السابقات من المهاجرات.. وليست ممن طار بذكرها الركبان.. انها امرأة لا يكاد يعرفها أحد. انظروا كيف تعاملت مع إشارة عابرة صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليست أمراً واجباً ولا حكماً شرعياً انها مجرد وصاية يجتهد فيها المتلقي بأقصى درجات الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما ذكرها تلطف مع الغلام وزاد في إحسانه إليه. أما هذه المرأة فتجاوزت كل ذلك وتجاوزت تعبها ونصبها وتعب زوجها ونصبه في الخدمة وجلب احتياجات البيت.. وصلت الى الغاية القصوى في وضع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي لا يعلو عليه موضع. ولم يكن زوجها بأقل منها في الاستجابة فقال دون أن يراجعها أو يلومها أو يعنفها أو يفعل ما أشارت على مضض أو على كره بل قال دون إبطاء.. هو عتيق. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً ومن يوقَّ بطانة السوء فقد وُقي. هذا درس في معنى المحبة والاتباع نهديه الي جميع أهل السودان لا نخص به أحداً ولا نؤثر به جماعة، ولا نلحن به إلى أهل الحكم دون غيرهم ولا نخاطب به الدعاة دون سواهم.. إنه درس في التأنق في الاتباع. ودرس في التأدب في الانقياد. إنه درس لأهل التدين في التدين. ودرس لأهل الصبر في الصبر. ودرس لأهل التعفف في التعفف. ودرس لأهل الزهد في الزهد. فيا أهل السودان.. حكاماً ومحكومين..