الأستاذ عثمان ميرغني ظل ولمدة طويلة يتراشق مع صحيفة الإنتباهة محمِّلاً إياها كلّ مصائب السودان وكأن السودان قبل أن تولد هذه الصحيفة كان فردوساً أرضياً، عثمان ميرغني ظل يلمز الصحيفة كلّما لاحت له فرصة فحينما يتحدث علي عثمان النائب الأول لرئيس الجمهورية عن أن بعض الصحف تدعو للفتنة والإثارة يجزم عثمان أن نائب الرئيس لم يقصد بحديثه ذاك سوى «الإنتباهة»، وإن تبنت «الإنتباهة» فكرة فهي عند عثمان شرٌّ محض لا خير فيه ليس إلاّ لأنه صادر من تلك الصحيفة. بداية، لا نريد أن نغمط الرجل حقه فعثمان من الأقلام التي تجد حظها عند الجمهور طيلة السنوات الأخيرة منذ أن كان كاتباً في الصحف الأخرى قبل أن يؤسس صحيفته المستقلة «التيار» التي أيضاً هي الأخرى حققت نجاحاً مقدرًا نختلف ونتفق حول ما يكتب فيها كما هو شأننا مع الصحف الأخرى. الأستاذ عثمان يكتب أحياناً ردًا على حديث موجه له من «الإنتباهة» وتحديدًا من الأستاذ الطيب مصطفى وإسحق أحمد فضل الله، وأحياناً يبادر هو بالهجوم حيث يتصيّد بعض ما يرد في «الإنتباهة» وينسج منه موضوعاً بلا أدنى مبرر أو منطق لدرجة أن يصف بعض من هم في «الإنتباهة» بأنهم مجرد (م . ن) للإسرائيليين و (م.ن) هذا مصطلح شائع عند الشيوعيين ويعنون به المغفّل النافع الذي يُستخدم ويستغفل لأداء دور معين يؤديه بكل سذاجة وهو لا يدري أن من يستخدمونه لذلك الغرض ينظرون إليه بعين الاستخفاف والسخرية. كتب الأستاذ عثمان في صحيفته التيار بتاريخ13/9/2011م ردًا على ما كتبه عنه الطيب مصطفى وإسحق فضل الله كما ذكر واصفاً إياهما بأنهما «عدة شغل» في الإستراتيجية الدولية، وهنا أنا لست في مقام الرد على عثمان نيابة عن الطيب مصطفى أو إسحق فهما أقدر مني في الرد على عثمان، ولكني بصدد التطرُّق لبعض ما ورد من غرائب في ذلك المقال الذي سوّد به صفحة كاملة من صحيفته، ولا أريد أن أضع نفسي في مقام الأستاذ الموجه لعثمان ميرغني ولكني في مقام الاختلاف المشروع حول وجهات النظر السياسية مع تقديري لفرق السن والخبرة بيني وبين عثمان، وهذا لا يمنع أن أناقشه وبهدوءٍ حول ما أورده في مقاله محل النظر. يضفي عثمان ميرغني في مقاله على المجتمع هالة من التعظيم تكاد تجعله رباً آخر لهذا الكون، فالمجتمع الدولي أو «أمريكا وإسرائيل تحديدًا» فعالٌ لما يريد يفصل الدول كيفما ووقتما يشاء ويوحدهما وقتما وكيفما يشاء بناءً على ما تمليه عليه مصالحه، فالإستراتيجية الدولية عنده حسب ما يقول تريد تفكيك السودان وبعثرته، ولكنها تريد فك وتركيب السودان من جديد وذلك بدمج الجنوب مرة أخرى في الشمال من أجل أن يحدث تحوير جيني في السودان، وذلك بتأسيس دولة عصرية في الجنوب تصبح نموذجاً تلتف حوله بقية الإقاليم السودانية لتصنع الواقع الجديد.. والسؤال هو: هل هذه الإستراتيجية التي يتحدث عنها عثمان رآها في أحلامه أم هي خطة حقيقية اطلع عليها فإن كانت الأولى فإنها تصبح مجرد أوهام، أما إن كانت حقيقة فإن عثمان ميرغني بهذا يصبح أكبر «عدة شغل» للمجتمع الدولي طالما أنه مطلع على تفاصيل ما يدبرونه، فطالما أن عثمان يقص علينا تفاصيل خطة المجتمع الدولي لتشكيل مستقبل السودان، فهذا يعني أن الرجل لديه حظوة عند هؤلاء للدرجة التي تجعلهم ينورون عثمان بما ينوون فعله في السودان مستقبلاً، وبالطبع هذا ليس إنكاراً للتدخل الدولي في الشأن السوداني فهو واضح لكل مراقب للحالة السودانية، فالمجتمع الدولي أو الاستعمار الجديد لن يتركنا لحال سبيلنا، هذه فطرة عدائية فيهم، لكن المجتمع الدولي ليس بالضرورة لديه القدرة والاستطاعة على تنفيذ كل ما يريد وفي السودان دون أن يجد أي عقبات تعترضه، فحديث الأستاذ عثمان حديث المتيقن من أن ما يدبره المجتمع الدولي للسودان سيطبق علينا حرفاً حرفاً وما علينا إلا الاستسلام له، وعثمان بهذا المنطق ومن حيث لا يشعر يجعل من شعب جنوب السودان مجرد أداة يحركها المجتمع الدولي كيفما يشاء، بفصلهم عن الشمال ثم يرجعهم إليه مرة أخرى وهم لا يشعرون، وينسى عثمان عوامل الواقع السياسي في الشمال والجنوب والتي لا تجعل من خطط المجتمع الدولي أو الاستعمار الجديد تصبح قابلة للتطبيق، كما يريد المستعمرون الجدد، فمهما خطط المجتمع الدولي فإن الواقع على الأرض قد لايسمح لخطط الغرب أن تطبق حرفاً حرفاً، والمجتمع الدولي نفسه ليس خطوات ثابتة في تنفيذ أجندته وإن كانت أهدافه البعيدة واحدة، وهم غالباً ما يضعون بدائل لتنفيذ خططهم تحقيقاً لأهدافهم البعيدة، فهدفهم العام من التدخل في الشأن السوداني هو إضعاف الشمال لصالح الجنوب في حالتي الوحدة والانفصال، فهم يريدون وحدة لو حكمت الحركة الشعبية السودان كله وفرضت برنامجها العلماني المتمثل في السودان الجديد ويريدون انفصالاً إن أصبح ذلك غير ممكن، والمجتمع الدولي مهما اجتهد في تنفيذ أجندته فلن يستطيع تمريرها لو أنها لم تكن لها قابلية للتطبيق في الدول الضعيفة، فالانفصال أصبح رغبة للمجتمع الدولي بعد نيفاشا ولكنه قبل ذلك كان رغبة لشعب جنوب السودان منذ عشرات السنين قبل مطلع الاستقلال وقبل أن يولد عثمن ميرغني نفسه وقد قمنا بنشر ذلك بالوثائق في يناير ويوليو من هذا العام وما على عثمان ميرغني إلاّ الرجوع لإرشيف «الإنتباهة» في هذين الشهرين فلو أراد المجتمع الدولي الوحدة لما استطاع إلى ذلك سبيلاً فالرغبة الجامحة في الانفصال لدى الجنوبيين كانت متوفرة أصلاً، فقط كانت تنتظر اللحظة التاريخية لتجد حظها من التنفيذ ويصبح الانفصال أمرًا واقعاً. في شطحة أخرى من شطحات عثمان في ذلك المقال يذهب عثمان بخياله بعيدًا حينما يتحدث وكأنه يرى بعين اليقين الدولة الجديدة في الجنوب ستصبح فردوساً في زمن وجيز وهنا لا يبخل الأستاذ عثمان علينا بكمية من «السينات» على شاكلة ستتدفق وستتحول وستصبح حيث يقول: إن الإستراتيجية الدولية تستهدف إقامة دولة عصرية «نموذج في جنوب السودان والجنوب سياسياً بكر لم يتلوث بكثير من عقد الشمال وفي الإمكان تطوير نموذج دولة ديمقراطية راشدة). ويقول: ستتدفق الاستثمارات الغربية على الجنوب وستحدث طفرة تنموية هائلة في الجنوب يتخطى بها الدولة الأم، وستصبح دولة الجنوب (دبي) إفريقيا دولة مزدهرة وجاذبة للاستثمار وسيجد السودانيون في الشمال أنفسهم مصطفين منذ الصباح الباكر أمام سفارة دولة جنوب السودان للحصول على تأشيرة للعمل في دولة الجنوب، ولن يستنكف شباب دولة السودان الشمالي أن يعملوا في هيئة النظافة في مدينة جوبا وفي عربات النفايات وفي نظافة المرافق الحكومية والشركات في جنوب السودان وربما حتى البيوت وتتبدل الصورة القديمة التي كان فيها أبناء جنوب السودان يعملون في مثل هذه المهن في الشمال، ويقول: ستصبح دولة جنوب السودان محور تنمية في إفريقيا وقبل ذلك مركز نشاط وستتحول عاصمة جنوب السودان الجديدة إلى قطب إعلامي دولي تهاجر إليه الفضائيات وتبث من أراضيه، وحينها ستتودد الدولة الأم في الشمال إلى دولة الجنوب لتكسب ودها، ومن هنا تبدأ رحلة العودة للدولة الأم دون أن نحتاج إلى نيفاشا جديدة حيث تعود دولة الجنوب للشمال كما تفعل مركبات الفضاء التي تنفصل في الجو ثم تلتصق مرة أخرى بمنتهى الدقة، وتندمج الدولتان ولكن شتان بين السودان القديم بكل عقده ومحنه والدولة الجديدة التي يمثل فيها الجنوب قطب التنمية وحقوق الإنسان ورشد الحكم والممارسة السياسية، فعثمان الذي يتحدث وكأنه بالغيب عالم كما قال المتبني في ممدوحه يتحدث بلغة لا أحسب أن أكثر الجنوبيين تفاؤلاً يحلم بها، يتحدث وهو يتجاهل حقائق التاريخ وسنة التطور الطبيعي للمجتمعات فالمجتمع الجنوبي الآن وواقع الحال في دولة الجنوبالجديدة يقول بغير ذلك حيث القبلية المسلحة والتمرد على الدولة الجديدة وعصابات النيقرز وهشاشة المجتمع الجنوبي، فهذه كلها عوامل ستقلل من إمكانية حدوث ما يتحدث عنه عثمان، ربما ينتقل شعب الجنوب من هذه الأوضاع ولو بعد حين لأنه قطعاً لن ينتقل بتلك الطريقة السحرية فإمكانات الحكم الرشيد في الجنوب ليست متوفرة وهذا ما لن يجليه المجتمع الدولي للجنوب حتى وإن أتت الشركات الأجنبية واستثمرت في الجنوب فهي ليست فاعلة خير همها الأول ربحها هي ومصالح دولها ولو أعطت الجنوب فلساً واحدًا ستأخذ مقابله ألفاً ولن يكون تعامل الأجانب في دولة الجنوب إلاّ في حدود مصلحتهم، بالطبع لا نتمنى أي اضطرابات أو فشل دولة الجنوبالجديدة ولكننا نذكر قضايا ماثلة وحقيقية تواجه الجنوب، فاستقرار الدولة الجديدة والتفات أولي أمرها لقضايا مواطنيها أفضل لأمننا القومي من اضطراب الدولة الجديدة، بدلاً عن دعم عقار والحلو من الجنوب ثم لماذا يتمنى عثمان ميرغني ويتحدث بروح الغبطة عن الدولة الجديدة التي ستصبح فردوساً ويتحدث عن دولته هو بهذا التشاؤم لدرجة تجعله يجزم بأن يقف أبناء الدولة الأم أمام سفارة الدولة الوليدة طمعاً في الهجرة إليها، حديث هذا يستبطن أنه يتمنى مصيرًا سيئاً لأبناء شعبه ودعوة مبطنة لأبناء الجنوب للانتقام وذلك باستيعاب العاملين الشماليين المهاجرين لدولة الجنوب في المهن الهامشية انتقاماً من سنوات الاضطهاد التي قضوها في الشمال كما يوحي عثمان بذلك وإن لم يذكره صراحة. سؤال نوجهه لعثمان ميرغني، لوسارت الأمور كما ذكرت وعاد الجنوب للشمال بصورة يمثل فيها هو الأنموذج وتم تحوير الجينات لدولة السودان لصالح فكرة دولة الجنوب المزدهرة والعائدة لحضن الشمال، فهل ذلك في نظر عثمان شر لنا، ما أفهمه من حديثه أن السودان بعد عودة الجنوب سيكون عائدًا بروح نموذج إسرائيلي حينما ذكر في بداية حديثه بصورة فيها إعجابه بإسرائيل أن هدف دولة الكيان الصهيوني هو السيطرة الفكرية لا الجغرافية أي حينما تعود دولة الجنوب بعد أن تزدهر بواسطة الإسرائيليين فإن هذا يجعل الشماليين مستلبين فكرياً لإسرائيل التي خلقت دولة نموذجاً في الجنوب وأعادته إلينا لنسير على طريقه، وهنا تتم السيطرة الفكرية علينا من بني إسرائيل وهنا أسأل عثمان إن كان الأمر كذلك فإن فصل الجنوب أمر جيد لأنه يمنع النشاط الإسرائيلي في الشمال بصورة ظا هرة وقانونية حتى وإن غرست إسرائيل أنيابها في كل دول الجوار واستولت على كل دولة الجنوب فقرب النفوذ الإسرائيلي من السودان جغرافياً مهما كانت خطورته لا يعادل في خطورته النشاط الرسمي والمعلن والمعترف به، فإسرائيل ذاتها ناهيك عن نفوذها على مرمى حجر من دمشق عاصمة الأمويين ومن بغداد عاصمة العباسيين ولها سفارة في مصر بلد الأزهر الشريف، فلا يعنينا وجودها في الجنوب في شيء إلاّ من باب الحرص على أمننا القومي. أستاذ عثمان، أمور السياسة لا تمضي بهذه الصورة المثالية التي تتحدث عنها، أنت بحديثك هذا تلغي عقل الشعب في الشمال والجنوب وتظهرهم بمظهر الغائب عن المشهد السياسي مما يدريك لو أن المجتمع الدولي أراد فعلاً أن يعيد توحيد الدولتين ألا يجد مقاومة من شعبي الدولتين اللذين بالطبع لا يريدان العودة لبعضهما بعد سنوات الحرب والمرارات التي عايشاها في أيام الوحدة. وأنا أهم بختام هذه السطور تذكرت أغنية الفنان سيف الجامعة «خليك في الواقع أصلو الفراق واقع كان ترضى كان تزعل» فيا عثمان أصلو الفراق بين الشمال والجنوب واقع منذ الأزل.