يعد السودان بحدوده المعروفة حالياً، أرضاً لأقدم الممالك والحضارات في منطقة جنوب الصحراء، وذا تراث آثاري وتاريخي مازال اغلبه غير معروف او مكتشف. وفي بلد مترامي الأطراف مازال العمل الآثاري بطيئاً وقليل الموارد، فمازلنا في بداية الطريق لمعرفة أصول اهم واكبر الممالك في كرمة «2500 الى 1500 قبل الميلاد»، ودولة كوش مروي «800 قبل الميلاد إلى 350 ميلادية»، والممالك المسيحية وسلطنات سنار ودارفور في فترة العصور الإسلامية المبكرة. لقد اكتسب السودان أهميته وسط علماء الآثار والتاريخ من كونه منطقة للتفاعل بين تقاليد ثقافية متنوعة تربط إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومصر والبحر الأبيض المتوسط، وما وراءها. كما انه تطور منذ وقت مبكر وبشكل استثنائي الأنظمة السياسية الحاكمة في نهر النيل، مما قدم فرصاً رائعة لدراسة تطور السلطة السياسية، وكذلك في جوانب أخرى كالزراعة والعمران. وقد ظلت دوائرنا الإعلامية ومنذ فترة بعيدة تركز جل اهتمامها في عبارة «السودان أرض الحضارات» دون أن تقدم للمواطن العادي او حتى من لهم اهتمام، ولو قليل، بالتاريخ والآثار، ماهية هذه العبارة ومدلولاتها، وتوجه جل ظننا أن الآثار إنما في كرمة والبركل ومروي وسوبا وغيرها. ولم تفلح هذه العبارة رغم ضخامتها في توجيه الوعي المجتمعي لاحترام هذه الآثار كونها تمثل قيماً تراثية وتاريخية فريدة. وبدلاً من ذلك ينظر الكثيرون لهذه الآثار على أنها «خرابات وكسار وطوب قديم من زمن العنج» دون معرفة من هم العنج وما أصولهم، فما ترسخ في اذهانهم لزمان طويل لا يمكن محوه او تعديله بسهولة. وكلنا شركاء في هذا الفهم الخاطئ لأننا لم نعكس علاقة المواقع الأثرية بالتعليم والسياحة، وتنمية المجتمعات المحلية والتأثيرات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وأن حفظ التراث الثقافي والآثاري يسهم في حفظ الهوية المحلية والقومية، ويمثّل عنصراً مهماً في التنمية الاقتصادية للمنطقة. إن عبارة «السودان أرض الحضارات» هي حقيقة واقعة ودلائلها بينة وجلية، وبيناتها متشعبة ومعقدة، والحديث فيها يطول، بل أن كثيراً من الجامعات العالمية لها مناهج موجهة صراحة لدراسة الآثار السودانية، والمتخصصون فيها والدارسون لها بالآلاف. ألا يدعو ذلك للتساؤل عن هذه الحضارات واصولها وسماتها وأراضيها وحكامها ومواطنيها وتقاليدها ودياناتها، وازدهارها وأفولها؟ ولا أود أن يكون الحديث في هذا الجانب علمياً بحتاً، وإنما سرد مبسط في حلقات قد تسهم في نهاية الأمر في فهم أفضل لعبارة «السودان أرض الحضارات». * أستاذ مشارك جامعة الملك سعود