توقفنا في الحلقة الأولى عند قول الخليل «يا جميل يا نور الشقايق». وفي هذه الحلقة نتوقف عند قول الخليل «نشابي للنجوم .. وأنا ضافر الهلال»، والهلال كما هو معروف يرمز للإسلام وهو شعار الكثير من الدول الإسلامية، ويعلو ملايين المساجد في العالم الإسلامي. أذكر في موروثاتنا القديمة الجديدة، وحتى عصر قريب. كانت النساء يتزين بما يسمى «البيير» وهو هلال صغير كان يعلق في الأذن والججم الأكبر منه يسمى«العكش» وربما الكلمة عربية وردت من مصر. وكان هناك هلال من الفضة «أكرر الفضة» يتم تعليقه على الرقبة بخيط حريري، لم يكن يلبس للزينة، بل كان يعتبر تعويذة لطرد الأرواح وحفظ الشخص من الحسد والشر.. وكان يسمى«هافيد» وهي كلمة عربية من «حافظ» وهو الذي يحفظ الناس من الأرواح الشريرة والأمراض.. وربما قصد الخليل بالمعنى القريب هذا الهلال الذي كان يستخدم حتى وقت ليس ببعيد.. وكذلك الهلال الذي يضعه«العريس» ليلة عرسه على جبينه، وهي عادة نوبية قديمة معمول بها حتى الآن في كل أنحاء السودان. ولهذا الرمز«الهلال» قدسية خاصة في نفوس النوبة عموماً.. وفي السابق عند تزيين البيوت والاستعداد للمناسبات الدينية«العيدين» أو الاجتماعية كالزواج والختان والولادة كان أول شكل يتم رسمه هو الهلال، ورغم صعوبة رسم القوس أو الخط المقوس كان أهلنا يجيدون رسم الهلال بكل المقاييس ودون إخلال بالشكل. هذه هي الأهلة التي ذكرها خليل وأنا ضافر الهلال .. وعندما يقول«نشابي للنجوم» والنجمة كانت في الكنيسة النوبية رمز النقاء والإضاءة والوهج. كانت رمزاً من رموز التصالح ونقاء العقيدة وولاء الفرد المسيحي للكنيسة.. وما نجمة الحركة الشعبية إلا ادعاء وتزييف لهذا الجمال.. والنجمة في داخلها ترمز إلى عدة فضائل موروثة بالطبيعة والتدين، فالنجمة السداسية ترمز إلى الديانة اليهودية، والصليب يرمز إلى المسيحية وكليهما مشمولين في النجمة.. وأيضاً تتكون من المثلثات وهي أشكال كانت مقدسة عند النوبة... والنوبة بطبعهم كانوا صادقين عندما بنوا الاهرامات بالشكل الهرمي المعروف، وكذلك المثلثات المستخدمة إلى اليوم في أعلى حيشان المنازل النوبية«كرناق»، والمثلث شكل يدل على صدق الاتجاه، فقاعدته في الأرض وراسه متجه إلى السماء، والسماء رمز لخالق الكون، أما الأشكال الدائرية والمربعة فإنها لا تدل على صدق الاتجاه. لذا ترى الاتجاهات توضح بالأسهم ورأس السهم هو المثلث.. وكما ذكرت من قبل فإن منطقة النوبة في السودان بها أكثر من مائتين من الأهرامات الصغيرة، بينما يوجد في مصر خمسون هرماً فقط. وهذا بحث آخر.. والصليب أيضاً يرسم تلقائياً كشكل مبسط للنجمة في الحوائط وداخل منحنيات الهلال في بوابات المنازل للزينة.. وأذكر أن أمهاتنا كن يرمزن بالصليب على ظهر الأدوات المنزلية لفرزها في المناسبات التي تجمع فيها الأدوات المنزلية من كل البيوت.. فلم يكن يرسمن الدائرة أو المربع أو المستطيل، كن يرسمن الصليب وهي ممارسة كانت تتم كموروث تلقائي بدون أي تلقين أو حتى معرفة بمعنى هذا الشكل الكنسي.. في خضم هذا الفضاء الروحاني والحضاري نشأ الخليل وعينه على كنائس صرص ومساجد حلفا ودنقلا والسكوت.. ولا نغفل إعجاب خليل بمصر في تلك الأيام، ولم يكن وحيداً في حبه لمصر، فكل المثقفين والمتطلعين إلى حياة كريمة ورغد في العيش والإنتاج الثقافي والفكري كانوا شغوفين بمصر، لأن مصر الملكية كانت مختلفة تماماً عن مصر الحالية من حيث العلم والمعرفة والاقتصاد والليبريالية التي كانت الطبقة المثقفة في السودان تصبو إليها. ولأن تداعيات الثورة المهدية مثلت عبئا ثقيلا على كاهل مجتمع أمدرمان آنذاك بسبب تجييش المجتمع وعسكرته وخروج الحرفيين والعاملين وغيرهم إلى ساحات القتال في الحملات التي اتجهت شرقاً وغرباً وفي كل الاتجاهات، كان المجتمع المدني والاقتصادي والاجتماعي قد انهار عند نهاية الحكم الإنجليزي وقيام المهدية.. وقد ورث خليل ومجموعته مجتمعاً مثقلاً بكل أنواع التخلف حتى في الغناء والشعر والاقتصاد والفن.. وتأثير ذلك على شعر الخليل«نشابي للنجوم» فكان علم مصر تزينه ثلاثة نجوم في أحضان الهلال وهو رمز العلم التركي.. ورمز محمد علي باشا باني نهضة مصر الحديثة.. وكأن خليل يؤمن بوحدة وادي النيل «السودان ومصر» فكان يردد دائماً كلمة «نحن» وهذه ترمز إلى شعبي وادي النيل.. نحن ونحن الشرف الباذخ.. دابي الكر شباب النيل.. وأطلق خليل الكثير من الألقاب على مصر وبالغ في تدليلها، فيناديها أحيانا ب«كنانة إسماعيل» وفي أحايين أخر«كنانة آمون قايدة وشايدة» ولم يذكر كنانة العرب. وكأن خليل يقول إن مصر هي معنى لكل من أحبها من البشر، فعند العرب هي كنانة العرب أو مصر الكنانة ولدى خليل هي«كنانة آمون» وربما لآخرين كنانات أخرى يمكن أن يعبروا عنها.. بعد هذه التوطئة التي نراها ضرورية لفهم أبيات الخليل تعالوا نقرأ ما كتبه الأستاذ عبد الهادي الصديق في شرحه لبيت الخليل«عيني ما بتشوف إلا شاهق أين مني البدر التمام» يقول عبد الهادي الصديق " في البيتين الأولين يصف ابنته عائشة عند وداعه لها وهو يستعد للذهاب لمصر للعلاج. وفي البيتين الأخيرين يصف أخته فاطمة التي أيضا حضرت لوداعه، تأمل في هذه الأبيات وكلمة شاهق الأولى التي تعني يشهق من البكاء، وشاهق الثانية التي تعني علو مكانة أخته فاطمة عنده عالية المكانة وهي البالغ". وأرى أن الصديق لم يكن موفقاً وله أجر الاجتهاد.. ويبدو لي أن خليلاً كان مثل الأربعائيين لا يحب إلا الفضاءات المفتوحة والأفق الممتد والدليل على ذلك.. في أغنية في الضواحي وطرف المداين.. يدعو الناس للخروج من الحدائق والمضايق والأزقة إلى فضاءات أوسع وارحب.. لأن خليلاً شاعر متأمل.. لذا أحب خليل الأفلاك والسماء والجبل والصحراء ووصف الأشجار وأنواع النباتات.. وإذا كان خليل يرى نفسه أنه نقطة أو جزء من هذا الوجود أو لحظة من الزمن.. فلدى أمثال الخليل يكون «الزمكان» وهو ما يطلقه النقاد على الزمان والمكان كمصطلح.. اهتمام بل انسجام وعروة لا تنفصل أبداً.. وهنا يتجلى قول الشاعر الدنقلاوي حمزة الملك إن الشاعر الذي لا يتأمل، هو تماماً كالعابد الذي يأتي فقط بحركات بجسده دون التفكير والتأمل في خلق الله سبحانه وتعالى.. ويعتبر حمزة الملك أن آية«الشعراء يتبعهم الغاوون» إنما نزلت على الشعراء الذين لا يتأملون في الكون.. فإذا كان حمزة الملك من جيل خليل فرح وبالتالي فكل شعراء ذلك الزمان كانت لديهم منظومة فكرية وعمق معرفي وفلسفة مشتركة مع الحرص على إجادة الشعر بكل فنونه، واستدعاء كل نظريات الإبداع والجمال وأدوات الشعر العربي من طباق وجناس وتورية إلى الشعر العامي في نوع من إبراز العضلات وإظهار التمكين وعمق المعرفة بالتراث العربي من الشعر.. وإذا وضعنا الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم كشاعر وطني مصري فهو من أطلق على مصر «بهية» ومن قبله أطلق خليل على السودان«عزة». نلاحظ أنه وغيره لم يكونوا في عمق خليل وتناوله لفنون الشعر العربي من خلال العامية السودانية، ويبدو أن أحمد فؤاد نجم سطحي أكثر بكثير من الخليل، ولا يوجد في شعره الجماليات«جناس ، طباق ، تورية ، بلاغه .. الخ ) ولذا فإن شعره يذهب إلى منحى واحد وبدون أي عمق أو مدلولات أخرى.. وهنا تظهر عبقرية حمزة الملك في تصنيف الشعراء ولا أقول إن أحمد فؤاد نجم ضمن تصنيف «الغاوين» ولكن المخاطب هناك يختلف عن المخاطب هنا من حيث العمق والفهم وإدراك المعاني وعمق العواطف لدى الشعب السوداني الذي يستطيع أن يترجم عبارة أو كلمة إلى عدة مراجع لتنوعه وثراء بيئته.. عوضاً عن الشخصية المصرية التي لا يكتنفها الغموض وإذا لم نبالغ فهي أمة اللون الواحد والشكل الواحد والطبيعة الواحدة. وتعمق الخليل في التأمل في الفضاءات الكونية ومعطيات الخالق عز وجل لم يحده حدود فكان كالصوفي المتأمل.. وكثيراً ما للصوفي رمز يردده عندما يصل ذروة التأمل في الحب والانسجام بما حوله فتجده يهمهم بلفظ«ليلى» كما في شعرهم «يا ليلى ليلك جنه.. معشوقك أوه وأنَّ» وهنا يكون في حالة ما يسمى«السبط» عند المتصوفة، وهو منتهى التأمل وآخر درجات السمو والعلو عن العالم المادي المحسوس والدخول في دنياوات أخرى.. كذا الحال عند الخليل عندما يصل الذروة باللفظ«عزة» وعزة هذه تشبه تماماً«ليلى» عند الصوفية، ولكن للخليل واقعية عندما يرتد إلى واقعه فيمكن أن يجد«عزة» مجسدة في أشياء محسوسة ومادية كالليل والنيل والنخيل وأزقة أمدرمان والحسان والغيد... وليس كالصوفي الذي يعيش طوال حياته فيما وراء هذا الكون الواسع (عيني ما تشوف إلا شاهق).. ويقصد خليل بالشواهق شوارع القاهرة الضيقة بالنسبة لفضاءات أمدرمان الواسعة.. وخليل لا يريد أن يرى النيل بعد عناء وتعب أو بعد ركوب سيارة أجرة أو حنطور، فهو من تعود على النيل مجرداً كما خلقه الله سبحانه وتعالى... فخليل يريد أن يكون للنيل رفقة دائمة وما الذي يمنع الخليل من ذلك.. هو شاهق البنيان في شوارع القاهرة «عيني ما تشوف إلا شاهق» خاصة وأن هذه القصيدة كتبت في مصر في منزل ابن عمه «فرح اندي» أو فرح أحمد بدري وهو عم«حمزة سعيد بدري» قائد أوكسترا التلفزيون السابق وهو من ارتقاشا.. وعمنا فرح رحمه الله كان مشهوراً مثل ساتي صالح في جدة.. كان يستضيف الناس في عمارة في الزمالك. وخليل كان في ضيافته في تلك الفترة.. لذا فإن كلمة شاهق هنا تعني المباني العالية التي تحجب خليلاً عن التأمل كما تحجب عنه أضواء القاهرة التأمل في السماء والكواكب والأفلاك.. فصار خليل محروماً من النيل والفضاء والسماء.. فكان هذا البيت «عيني ما تشوف إلا شاهق».