والحق.. إننا لا ندري اليوم أين سترسو بنا سفينة هذه البلاد، وأمواج الأحداث المتلاطمة تصيبها ذات اليمن وذات الشمال، والشاطئ يبدو بعيداً للناظرين، لم تهدأ فيه أي سفينة كانت منذ فجر الاستقلال، لا «زورق» عبود، ولا «مركب» الأحزاب، ولا «باخرة» نميري، ولا حتى «يخت» الإنقاذ والبحر ميدان القراصنة. أكثر من خمسين عاماً ونحن نبكي على الأطلال وبلادنا تنزف.. بالرغم من أننا كنّا من أوائل الدول الإفريقية التي نالت استقلالها، إلا أننا أضعنا البوصلة، وغاب عنا التشخيص الصحيح لعلاتنا، ولم نقدِّم وصفة طبية يندمل بها جرحنا، وكانت كل حكومة تأتي تلعن أختها، حتى تضفي على نفسها الشرعية، وكل حكومة تأتي تظنُّ نفسها «ديكا» يعتقد أن الشمس لا تشرق إلا لكي تستمع لصياحه في الصباح. وطوال الخمسين عاماً ونيِّف من سني الاستقلال لم نعش إلا في حالة شدٍّ وجذب، مد وجزر، كيف لا والتاريخ يحفر بالدماء حرب الجنوب، التي قضت على الأخضر واليابس، أخضر الزرع وأخضر الشباب، انقلاب ثم حكم ثم انقلاب، اتفاقيات تعقد وأخرى تنهار، كذب ودجل هنا، وهناك غش وخداع، تمرُّد في الشرق كان، وتمرد في الغرب كان ويكون، والجنيه السوداني المسكين مطعون في مشيه، لم يكن واثقَ الخطوة ملكاً! بل منكسرًا حزيناً، تسفهه الحكومات وتزدريه العملات، وتقتله الأسواق، دخلت في شؤوننا «عديل كده» أمريكا وفرنسا وبريطانيا، والإيقاد والاتحاد الإفريقي، أصبحنا برنامجاً يومياً للكونغرس الأمريكي ولمجلس الأمن «الأمريكي» ولهيئة الأممالمتحدة«الأمريكية» أما الجامعة العربية فقد تركت السودان وحيدًا وسط السباع والذئاب والكلاب، ينهش هذا من لحمه وذاك من شحمه، وأولئك يكسرون عظمه. وحتى السلام الذي ظنَّ الناس أن «نيفاشا» قد جاءت به في طبق من ذهب، اتضح فيما بعد أنه «فالصو» يتدثر بالثقوب، جاء سلاماً منقوصاً نعاني من «خوازيقه» حتى اليوم، الفرقتان التاسعة والعاشرة تقصفانا بجنوب كردفان، وجوبا تفتح ذراعيها لثالوث الشيطان «عقار والحلو وعرمان»، وتدعم ما يسمى بالجبهة الثورية، وترسل الأسلحة إلى قلب الخرطوم، وتشتري الذمم والضمائر وتوزع الكبائر، ثم تشكونا إلى دول الاستكبار، وأخيرًا يعلن سلفا كير على رؤوس الأشهاد أن نزع السلاح عن قطاع الشمال مستحيل، مما يعني أن جوبا مصرّة على أن تعيدنا إلى المربع الأول «الحرب»، التي أخذت فلذات أكبادنا ولا عزاء لنا فيهم سوى أننا نحتسبهم شهداءَ عند ربهم يرزقون. والآن آن لنا أن نسأل: ألم يأتِ اليوم الذي يتحد فيه الجميع من أهل السودان، جميع الإسلاميين؟ هل أصبحت هذه الأشواق وتلكم الأماني صعبة المنال، مثلها كجمهورية «إفلاطون» أو«يوتوبيا» الأحلام، لا يجوز لنا حتى التفكير بها، لأنها «جميلة ومستحيلة» ، أم أنه لابد المسير بسنن التاريخ وأقوام سبقونا؟ ألم نفكر ونعقل ونتدبّر كثيرًا قول المولى عز وجل « وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا»؟لماذا لا يقدِّم الترابي تنازلات؟، لماذا لا يفعلها البشير وعلي عثمان ونافع والصادق المهدي ومولانا محمد عثمان الميرغني؟ وحسن ظننا بهم دوما أن يجلسوا جميعا في «مستديرة» ليقولوا بصوت واحد:أن كفانا قتالاً، كفانا تشرذماً، كفانا فقراً وانحطاطاً وتخلفاً، ولنراعي الله في إنسان السودان، فأيم الله لقد سئم الشعب السوداني من السياسة وإفرازاتها وتداخل مقاصدها ومبتغاها، لقد أصبحت لديه قناعات راسخة بأن السياسيين جبلوا بأنهم «يقولون ما لا يفعلون»، لماذا لا نغلق الباب لكل الخلافات والجراحات والأحقاد ما ظهر منها وما بطن، ولنتفق بأن ننهض بهذه الأمة إلى مصاف الدول الأولى، ولنضع سقفاً زمنياً نتعاهد عليه، لا نريد انقلابات أخرى، فهذه موضة قد عفى عنها الزمن، ولنسأل أنفسنا: ما الذي نفتقده نحن ويملكه الآخرون؟ سؤال بحجم «عطارد» والإجابة عنه بحجم «الأرض»، إن الذي نفتقده قرائي الكرام، كثير من كثير!!، لن يكفي أن يسرد في هذه المساحة، لكن لا بأس بضرب بعض الأمثلة، إننا نفتقد الشجاعة في الاعتراف بأخطائنا، وهذا ما أخّر مثلاً: انفصال الجنوب منذ مؤتمر المائدة المستديرة في نهاية الأربعينيات، إننا نفتقد للقرارات الحاسمة التي تنجينا من هول الأزمات التي نمر بها، إننا نفتقد إلى أدب الاستقالات، هذا الأدب الذي يمثل قمة الأخلاق، أن نعتذر من تكليف نشعر أننا غير مؤهلين للقيام به، أو حتى لم نلق المساعدات المطلوبة لإنجازه، إننا نفتقد لإعطائنا الأمر لأهله، وقد ساء «خبزنا» عندما أضعنا «الخباز»، إننا نفتقد للشفافية في تعاملاتنا وعلاقاتنا، ولعل تقرير المراجع العام المخجل والمشين يثبت أننا نفتقد للأمانة التي كلفنا بها، لنكتشف كل عام من تقرير المراجع العام بأن حاميها حراميها، إننا نفتقد للدبلوماسية التي صار شعارها لدينا«انضُم وانجُر والعاقبةُ للمتقين».. وأخيرًا وليس آخراً إننا نفتقد وزارة الدفاع، نحن على يقين أن هذه الحكومات المتعاقبة والمتوالية لم تكن في يوم من الأيام إلى جوارالمواطن، تسأله كيف اشترى لبن أطفاله؟وكيف أمّن الغذاء لأسرته؟وكيف سدد رسوم المدارس لأبنائه؟من أين يعالجهم إذا مرضوا؟ وكيف يدفئهم إذا بردوا؟ وما أكثر الشعارات التي نرددها! وما أكثر النقد الذي وجهناه!، لكننا في بلاد متناثرة المزاجات، متباعدة الاتجاهات، كثيرة الاختلافات، قليلة التفاهمات، وإنسان السودان فيها كما قال البياتي «من منفى إلى منفى ومن باب إلى باب يزوي كما تزوي الزنابق في التراب».