تطرق الأستاذ عوض قرشوم الذي تناول خلال هذه الندوة ورقته عن تاريخ الحركة الإسلامية في السودان التي ابتدرها بالحديث عن بدايتها الأولى في السودان والتي ذكر أنها كانت محصورة في المساجد تؤدي دور الوعظ والإرشاد فيها في حلقات مسجدية تهدف إلى إعادة الإسلام لأصوله الأولى، وأن هذا الدور كان ينتهي في المساجد ولا يتعداها إلى مناحي الحياة الأخرى، وهو نهج أقرب إلى طريقة أنصار السنة، الفرق بينهما هو فهم الحركة للإسلام باعتباره منهجًا كاملاً للحياة بينما اقتصر منهج أنصار السنة على التعليم والتثقيف والوعظ والإرشاد ومحاربة البدع.. وقال قرشوم إن الحركة الإسلامية نشطت وبدأت في الظهور أواخر أيام الاستعمار الذي تمكن في أيام عنفوانه من كبت التيارات الإسلامية التي اعتبرها المهدد الأول لوجوده في السودان، ولعل هذا النشاط قد ارتكز على خلفية تاريخية كون السودان قد شهد حكمًا أقرب إلى الشريعة الإسلامية في سلطنتي سنار ودارفور، وتطبيقًا كاملاً للشريعة الإسلامية في عهد الدولة المهدية، لكن دخول الإنجليز أنهى العمل بالشريعة وأتى بالكثير من المتغيرات التي رفضتها بعض الثورات المرتبطة بالمهدية، إلا أنها كانت ضعيفة ولم تستطِع إحداث تأثير يذكر. وفي أواخر أيام الحكم الإنجليزي ظهرت بعض البيوتات الدينية مثل آل المهدي أو الأنصار والمراغنة وآل الهندي. وعلى الرغم من الخلفية الدينية لها، إلا أنها لم تستطِع إقناع المثقفين من أنها يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية كما يريدون، وهذا ما ساعد على ظهور تيار جديد باسم الاتجاه الإسلامي ومرجعيته حركة الأخوان المسلمين في مصر التي تأسست على يد الشيخ حسن البنا.. البنا.. نقطة البداية.. وجدت أفكار البنا قبولاً من قادة ثورة 53م بمصر أول الأمر، ثم كان انقلاب عبد الناصر عليهم كما هو مشهور، فاتجه بعضهم إلى السودان سواء كانوا من الاخوان المسلمين أو حزب التحرير وبدأوا الفكرة في السودان في أوساط الطلبة والطبقات المستنيرة، وكانوا مرتبطين تمامًا بالإخوان المسلمين في مصر. بدأت حركة الاخوان المسلمين في المدارس السودانية، وخاصة المدارس الثانوية العليا في شكل أسر، معتمدين في بث أفكارهم على كتيبات المأثورات التي كان يصدرها حسن البنا في مصر. من أبرز قادة الاخوان في ذلكم الزمان الشيخ الصادق عبد الله عبد الماجد، ودفع الحاج يوسف (أول من اختير أمينًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين في السودان) والرشيد الطاهر بكر، ثم توالت قيادات أخرى في الأمانة منهم محمد صالح عمر ومحمد يوسف محمد وذلك في الفترة السابقة لثورة أكتوبر، وبعد الثورة تم اختيار محمد صالح عمر وزيرًا للثروة الحيوانية ومن بعده الرشيد الطاهر ممثلين للإخوان المسلمين في حكومة أكتوبر التي تبعها الإعداد للانتخابات. وفي هذه الفترة قدم الدكتور حسن الترابي من باريس وظهر كخطيب مفوه وصاحب آراء جريئة فتم اختياره أمينًا عامًا للإخوان المسلمين، فالترابي كان ينادي بوجوب استقلالية التنظيم باسم الاتجاه الإسلامي عن تبعيته للتنظيم العالمي للإخوان الذي يتبع له التنظيم الموجود في مصر.. شرارة الحراك السياسي.. بدأ الإخوان المسلمون حراكهم السياسي ودخلوا أول انتخابات في السودان عقب ثورة أكتوبر وكان التركيز على دوائر الخريجين وأربع دوائر أخرى على مستوى السودان، الدائرة الأولى دائرة القضارف فاز فيها الرشيد الطاهر استنادًا إلى وزنه القبلي هناك، والثانية دائرة طوكر فاز فيها موسى حسين ضرار، والثالثة في غرب السودان دائرة قارسيلا فاز فيها سليمان، والرابعة دائرة دنقلا ترشح فيها محمد صالح عمر ولم يفز رغم الجهود التي بذلت لقوة منافسيه أمثال عز الدين السيد والمحامي علي محمود حسنين وقد فاز فيها عز الدين السيد بدعم من قيادات الإدارة الأهلية. أضف إلى ذلك أن هذه الدائرة كانت مقفولة للاتحاديين إذ فاز فيها في الانتخابات الأولى أمين السيد على الشيخ الزبير حمد الملك (ناظر الخط) ثم أحمد مختار جبرة على محيي الدين صابر. ورغم خسارة محمد صالح عمر، إلا أن الدائرة بمرور الزمن تحولت إلى الاتجاه الإسلامي بالكامل وفاز فيها الدكتور عبد الوهاب عثمان في الانتخابات التي جرت بعد انتفاضة أبريل 1985م محققًا ثاني أكبر عدد من الأصوات (16 ألف صوت) على مستوى السودان بعد الصادق المهدي في دائرة الجبلين (17 ألفًا) وتحولت دوائر المنطقة الثلاث لتصبح دوائر مقفولة للاتجاه الإسلامي.. جبهة الميثاق.. كما تناول قرشوم خلال حديثه بداية انطلاق جبهة الميثاق التي أكد أن إمكاناتها في البدء لم تتجاوز سوى مكتب صغير في السوق العربي تصدر عنه جريدة الميثاق برئاسة ياسين عمر الإمام ورئيس التحرير عبد الرحيم حمدي وسيارة واحدة (ماركة تويوتا) حضر بها الدكتور حسن عبد الله الترابي وفي رفقته شاذروان وزين العابدين الركابي، وشخص آخر يدعى صهيب لدعم الشهيد محمد صالح عمر في حملته الانتخابية وكان الاتحاديون يهتفون بقولهم (ضد التويوتا يا عز الدين، ضد مال أمريكا يا عز الدين) في إشارة واضحة لربط الحركة الإسلامية بأمريكا، وعلى مستوى الجامعات فقد كانت المنافسة قوية بين الشيوعيين والإخوان، كانت الغلبة في البداية للشيوعيين حيث فاز خالد المبارك برئاسة اتحاد الطلبة وكان من أقوى المساندين له عبد الباسط سبدرات، وإسماعيل حاج عطية وعلي عبد القيزوم والخاتم عدلان، كما تضامنت معهم أحزاب المؤتمر الاشتراكي التي كانت تسمى أحزاب الوسط و(كان الأخوان يطلقون عليهم أحزاب الببسي كولا) والقوميين العرب وفيها قيادات غير الشيوعيين مثال فضل الله محمد والباقر أحمد عبد الله وإسماعيل الحاج موسى وجعفر عباس وعبد الرحمن الصهيوني. وتضامن معهم الأمة والوطني الاتحادي كما كان هناك القوميون العرب ولكن نشاطهم كان محدودًا. وضمن مجموعة الإسلاميين كانت هناك مجموعة من أبناء الطرق الصوفية مثل النيل أبو قرون وصديق الهندي والمكاشفي طه. وبدأت غلبة الشيوعيين في التراجع منذ فوز علي عثمان برئاسة الاتحاد في أيام نميري وانقلبت الموازنة وتأثرت المعاهد العليا بذلك وتعرَّض الإسلاميون لمضايقات، فالتحق بعضهم بالإمام الهادي في الجزيرة أبا وناصروه في صدامه مع النميري، وقد استشهد محمد صالح عمر في أحداث الجزيرة أبا ونجا منها كل من مهدي إبراهيم والكاروري حيث أسسا الجبهة الوطنية مع غيرهم من المعارضين في ليبيا وعادوا بعد مصالحة الصادق للنظام وحدثت صراعات بين القادمين من الخارج ومن كان بالداخل في الاتحاد الاشتراكي. واستعان النميري ببعض الإسلاميين من غير النافذين أو المؤتمرين بالتنظيم مثل عوض الجيد والنيل أبو قرون إضافة للشهيد حاج نور حيث استعان بهم في تطبيق القيادة الرشيدة ثم الشريعة الإسلامية التي فاجأ بها الإسلاميين أنفسهم. وقد اتسمت قرارات نميري بالجرأة، فإضافة لتطبيق الشريعة أنهى الجدل حول محمود محمد طه بإعدامه ومنع الخمر وقضى على الحزب الشيوعي، وكلها قرارات بغض النظر عن كونها خاطئة أو صحيحة تميَّزت بالجرأة. وبعدها انقلب النميري على الإسلاميين وكان يهدف إلى تصفية قياداتهم لكن جاءت الانتفاضة لتغير الأوضاع.. ثورة المصاحف.. وقال قرشوم إن ثورة المصاحف أفرزت الإنقاذ ودخلها الإسلاميون وحدة واحدة إلى أن حصل الانشقاق بين القصر والمنشية. وقد فرض علي عثمان نفسه على من هم أقدم منه وأكبر سنًا مثل عبد الرحيم علي ومهدي إبراهيم والشيخ أحمد عبد الرحمن، إذ كان فوزه الكاسح في انتخابات سابقة سببًا في غلبته كما أن أخطاء الترابي وإقصائه للجيل الذي كان بينه وبين علي عثمان مهد لأن يقفز علي عثمان من الصف الرابع إلى الأول كما قال وبالتالي كل البارزين في الإنقاذ أصبحوا أصغر سنًا من علي عثمان كمجذوب الخليفة وعوض الجاز وغازي صلاح الدين والطيب إبراهيم (الطيب سيخة)، وقطبي المهدي، والدكتور عثمان البدري فأصبحوا من ثم موالين أكثر لعلي عثمان وساندوه عند الانفصال. خلاصة القول إن الاتجاه الإسلامي رغم قلتهم في البداية إلا أنهم تمكَّنوا من لعب دور محوري في تاريخ الحكم في السودان وفي الشمال وتحديدًا في منطقة دنقلا والمحس كان تأثيرهم قويًا جدًا بدءًا بمحمد صالح عمر وصابر محمد الحسن والدكتور عابدين سلامة والشيخ عبد الحليم محمد، ومولانا جلال الدين محمد عثمان لتصبح ثانوية دنقلا مدرسة لتخريج قيادات الحركة الإسلامية فمنهم قادة الإنقاذ ومن يمسكون بمفاصل الدولة أمثال مكاوي وعبد الرحمن شرفي، وعبد الرحيم محمد حسين، وهارون حامد هارون، وهجو قسم السيد، والدكتور عبد الدايم عنبر، ود. بكري محمد سعيد (خبير الإستراتيجية) والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، ومنهم من ابتعد عن المشهد السياسي تمامًا مثل علي قيلوب ومحمد سعيد أحمد النور، حسن ساتي السيد، نور الدين أمينز. هذا باختصار ما لدي عن الحركة الإسلامية التي شهدت تغيرات وتطورات خلال مسيرتها الطويلة، وفي الجزء الثاني يمكن أن نتناول مسار الحركة بعد الإنقاذ إن شاء الله تعالى..