أشرنا في الحلقة التي انقضت إلى عجز المنهج الذي أكثر حاج حمد من التنفخ به، عن الإتيان بنتائج علمية جديدة ذات شأن معقول.ولنقل الآن إن استخدامات حاج حمد العرضية المحدودة لمنهجه، والتي جاءت في معظمها على سبيل المحاججة والتفاخر، إنما أتت بنتائج فاسدة. من ذلك إنكار المؤلف معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم، ما عدا معجزة القرآن الكريم. وذلك ما اضطره إلى أن يرفض حديثاً نبوياً صحيحاً، رواه الإمامان البخاري ومسلم، يقول: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله»، وقد سخر حاج حمد من مضمون الحديث قائلاً: «لن يصرخ حجر وقتها أن من ورائه يهودي، فالحجارة لم تتكلم طوال التجربة المحمدية، ولن تتكلم الآن». وفي حوار مباشر لي مع المؤلف، خلال تقديمي قديماً لعرض لكتابه بحضوره، بجامعة الخرطوم، أكد رأيه هذا، وتمادى فيه فأنكر جميع المعجزات الثابتة في السنة والسيرة، وهي أكثر من ألفي معجزة كما ذكر الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى. وإذا كان المؤلف قد سجل في كتابه هذا إنكاره للسنة كمصدر للدين، على سبيل التضمين، وأوحى بالتزامه بالقرآن وحده، فإنه في شأن معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يقبل حتى بما ورد منها في القرآن الكريم. مثال ذلك موضوع انشقاق القمر للنبي، صلى الله عليه وسلم، خلال جدال له مع الكفار، وقد ورد خبر ذلك في قول الله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ». وبمناسبة ذلك أذكر أني استمعت إلى محاضرة ألقاها بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا، صديق المؤلف وناشر كتابه ومروجه، البروفيسور طه جابر العلواني، انكر فيها على هذا النهج نفسه، معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم، عدا القرآن الكريم. ولما جادله أحمد النَّدِيِّ بمطالع سورة القمر، وتحقيق العلامة البروفيسور زغلول النجار لوجود انشقاق بالقمر، رصدته وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» ما كان من العالم الأزهري، العلواني، إلا أن تطاول على مقام علامة الفلك والجيولوجيا النجار وسخر منه، وادعى أنه أضاع وقته فيما لا نفع للأمة الإسلامية فيه، وقال إنه كان أجدر به أن يسخر معارفه العلمية لأغراض التطور المادي، وألا يزج قضايا الغيب والدين في هذا الإطار. وقد طالب العلواني بتأويل آيات القمر وعدم أخذها على ظاهرها الذي يدل على انشقاق القمر. ولم يخبرنا كيف يتم تأويلها ولا إلى أية دلالة تصرف! ولم يدلنا هذا العالم، الذي نال شهادة الدكتوراة عن تحقيقه لكتاب «المحصول في أصول الفقه للرازي، على أي أساس يتم تأويل الآيات المحكمات غير المتشابهات. وخطب هذا العالم أنه يسير على ركاب حاج حمد، في نهج متفسخ، متعلمن، يتنصل عن الثوابت، بغية التقرب إلى التغريبيين، وهذا نهج ابتدره البعض قبل حاج حمد، وعلى رأسهم الدكتور محمد حسين هيكل، وحاول أبو القاسم حاج حمد وتلميذه طه العلواني عبثاً أن يؤصلاه. وعلى هذا النسق اتجه كتاب حاج حمد ليجتاح أفق العقائد الإسلامية، ليعيد صوغها، وفق معطيات العالمية العلمانية الثانية، أي معطيات الفلسفة الوضعية الأوروبية، ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة. ذلك مع أن أصول العقيدة الإسلامية وموضوعاتها ثابتة، لا يعروها التغيير، وأمرها أيسر مما خاضه فيه هذا حاج حمد، من لغو لجوج، لم يكن ليعني المسلم المعاصر الحريص على دينه في شيء. تماماً كما لم يعن المسلم الغابر الذي حرص على دينه شيء من تفصيلات المعتزلة وتكلفاتهم وتأويلاتهم البغيضة التي أضفوها على نهج الاعتقاد الإسلامي. وفي الحقيقة فإنه ليس في مسائل العقيدة الإسلامية ما غفل عنه التراث الإسلامي أو عجز عن حله. وأفضل كتب العقيدة الإسلامية على الإطلاق هو أبسطها وأنآها عن التعمق والتقعر. وأفضل هذه ما اعتمد أدلته مباشرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة. ولهذا السبب راجت بين الناس عقائد سيدنا الإمام الأشعري، على مذهبه الجديد الذي شايع فيه منهج سيدنا الأستاذ الإمام الأكمل، كما سماه، الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله تعالى عنه. ولهذا السبب راج حديثاً منهج العقيدة الطحاوية، الذي شايع فيه كاتبه، أبو جعفر الطحاوي، عقيدة سيدنا الإمام أبي حنيفة النعمان، رضي الله تعالى عنه. وهي في الحقيقة عقيدة الأئمة الأربعة، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين. ثم راجت، وسادت، في العصر الحديث، عقيدة سيدنا الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي، رضي الله تعالى عنه، وهي أصح العقائد وأقربها إلى نهج الصواب. ومن النتائج التي أفضى إليها منهج حاج حمد في تحليل آي القرآن، استنتاجه فكرة نسبية التشريع، التي تحدث عنها تحت عنوان «المنهج والعالمية الثانية». وأما على نطاق الشريعة فأفضل الكتب ما اتبع نهج السلف الصالح وتمسك بالنص وعمل على فهم الواقع، وتحويره، وتطويعه ليتكيَّف مع نص. ولم يتنازل عن النص انهزاماً أمام سطوة الواقع. ولم يتمحل شروطاً مبتدعة لتبرير التنصل عن النص. وهذا التمحل هو ما تبدى في نهج حاج حمد الذي نادى من أجل التعجيز بتطبيق الإسلام جملة أو تركه جملة! حيث قال إن التشريعات الإسلامية ما هي إلا: «تفاصيل تطبيقية مشدودة إلى كلية المنهج وقائمة لتحقيق مجتمع الوحدة والسلام في إطار الحق الكوني، فكل محاولة لتجزئة البحث في التشريعات هي مباحث مرفوضة، كما أن المنهج الإسلامي يجب أن يطبق كله أو يعلق كله». وهذا الكلام معناه رفض سنة التدرج في التطبيق الإسلامي. فالمؤلف يرفض بتطرف شديد مبدأ أن يطبق الفرد أو المجتمع من تشريعات الإسلام ما يستطيع. ويفضل بدلاً من ذلك أن يعلق تطبيق الإسلام أو يوقف كلية. وكرة ثانية فهذا رفض لمبدأ إسلامي رشيد أرساه النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا». ومثال النجاشي كان مثالاً باهراً، فقد كان حاكماً مسلماً، ولكنه لم يطبق من شرع الإسلام إلا ما استطاع. وبناءً على هذا الرأي الغريب رأى المؤلف أن المسلم لا ينبغي أن يخرج زكاته إلا إذا منع الربا! وليكلا يزيد استغراب القارئ فهذا هو نص المؤلف حيث يقول: «فتحريم الربا يرتبط بضريبة الزكاة الجبرية، ولا يمكن تطبيق أحدهما بمعزل عن الآخر». ولاحظ تعريف المؤلف للزكاة بالضريبة. فهو يعرف الزكاة للمسلم وكأنه لا يعرفها، ثم لا يعرفها له إلا بمصطلح غربي حديث، وافد على بيئته الثقافية الحضارية. ثم لاحظ هذا الحكم الشاذ الذي ينطق به المؤلف، حيث يمنع أداء المعروف، إلا إذا منع المنكر، ويمنع عمل الصالحات، إلا إذا أوقفت السيئات! وفي نطاق القول بنسبية التشريع، حاول المؤلف أن يثبت أن تشريعات الإسلام لا تصلح لكل زمان. فالتشريعات التي وضعت لزمن العالمية الإسلامية الأولى، لا تصلح لفترة العالمية الإسلامية الثانية، التي بدأ عهدها منذ قليل. أي أن تشريعات الإسلام لا تصلح لهذا العصر. ودلل المؤلف على نظريته هذه بأن زواج النبي، صلى الله عليه وسلم، من السيدة عائشة، رضي الله عنها، لم يكن مناسباً، وذلك لفارق السن الكبير بينهما. قال المؤلف:« فمثلاً كانت التجربة العربية التي نشأ ضمنها محمد الذي لم يصلِّ عليه ولو مرة واحدة في كتابه على كثرة إيراده لهذا الاسم الكريم! تتقبل بواقعية تامة الزواج من صغيرات السن. وقد تزوج محمد عائشة بنت أبي بكر، وهي في السابعة، ونحن الآن ننظر من منطلق قيم مختلفة وكم يود بعضنا ألا يكون الرسول قد فعل ذلك». وهكذا تحرج المؤلف من أمر قضاه الله تعالى لرسوله، صلى الله عليه وسلم، وأمضاه. بل أساء المؤلف الأدب مع مقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وتطاول ليعلمه وليؤكد أن حادث الإفك إنما أتى تنبيهاً للرسول، صلى الله عليه وسلم، لعدم مناسبة هذا الزواج: «فيكتشف محمد نفسه وسط دائرة من الشائعات التي تنال سمعة عائشة دون سائر زوجاته من اللواتي يناسبنه في السن». وقد وصل المؤلف بنظرية نسبية التشريع إلى مداها الأقصى، حيث قرر أن العقوبات الشرعية الحدية غير مناسبة لذوق العصر الحديث. وزعم أن القرآن الكريم أمر بقطع يد السارق مثلاً لأن العرب في ذلك العصر كانوا يقطعون اليد: «إن عقوبات القطع والرجم والجلد كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي، وكان العرب يقطعون يد السارق اليمنى، فحولهم الإسلام إلى اليسرى وبشروط معينة». وأضاف يعزز زعمه السابق:« إن الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه». واستشهد لأجل ذلك استشهاداً خاطئاً بقول الله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا». وهذا جانب وغيض من فيض من جهل حاج حمد بالدين، فالإسلام لم يأمر بقطع يد السارق اليسرى، كما ادعى، وإنما بقطع اليد اليمنى، وذلك أمر لا خلاف عليه في كتب الفقه. والآية التي استشهد بها حاج حمد ليست دليلاً له، وإنما دليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى ارتضى لنا الشرعة والمنهاج المحددين في القرآن والسنة. وأما العقوبات الحدية فقد سميت حدية، لأنها حدود فاصلة، ومن ثم قل فيها الجدل بين الفقهاء، ولم يكثر الجدل فيها إلا بين منكريها، من المشاغبين الذين يسمون أنفسهم اليساريين، الإسلاميين، التنويريين، الحداثيين، ومن بينهم صاحب «العالمية العلمانية الثانية»!.