حتى تجلي تلك اللحظة التي استلهمت فيها عنوان هذه المقالة من حديث فكه طريف قبل أيام قليلة مع الأخ الأكرم د. خالد التجاني رئيس تحرير الزميلة «إيلاف»، وهو طبيب بيطري اختار الصحافة على تطبيب الحيوان، حتى تلك اللحظة، لم أكن أتصوَّر أن يستدعي خاطري وذاكرتي صورة باهرة لأستاذنا نصر الدين تمبور في السنة الرابعة بعد السبعين من القرن الماضي، وهو يدلف للصف الثاني أو الثالث ابتدائي في مدرسة زالنجي الابتدائية « ذات الرأسين» وهي مدرسة عريقة قديمة مبنية على الطراز الفيكتوري القديم، طاوياً كتاب المطالعة في يده اليسرى وحاملاً سوطاً من العنج يسميه «مخ الضنب»، وبضع طبشيرات ملونات كقوس قزح، تشبه وهي تهتز في بطن كفّه وقول الشاعر العربي المجيد في فن الوصف ابن الرومي: يطرزها قوس السحاب بأخضر على أحمرٍ في أصفر إثر مبيضِ كأذيال خود أقبلت في غلائل مصبّغة والبعض أقصر من بعضِ ثم يكتب على السبورة بخط فارسي أنيق ملون، عنوان الدرس«الدجاجة الصغيرة الحمراء» ويرسم الدجاجة ويقرأ لنا قصتها وكانت تعيش مع رفيقاتها الدجاجات السوداء والبيضاء وأتى الخريف وودعتهن لزراعة الفول السوداني فتكاسلن، فقامت وزرعت وحدها وجاء زمن الحصاد فطلبت منهن المساعدة فأبين عليها فحصدت وحدها، وطلبت منهن عونها في الطبخ فتثاقلن عنها فأوقدت نارها وطبخت الفول فلما تعالت رائحة الطبخ الشهية جئن ليأكلن معها فقالت قولتها الشهيرة: «الفول فولي زرعته وحدي وحصدته وحدي وطبخته وحدي وسآكله وحدي». «ب» قفزت تلك الصورة المجمّدة في أقصى ثنايا الذاكرة، والسلطات الرسمية تعلن أن المتهمين في المحاولة الانقلابية الأخيرة استعانوا بأحد المشعوذين الضالين، واعترف أحدهم بأنه اشترط عليهم أن يحضروا له دجاجة لزوم ما يلزم من عمل السحر والشعوذة لضمان نجاح الانقلاب، لكن الدجاجة ماتت في العربة قبل أن تصل ليد «الفكي» والانقلابي، ودخلت الدجاجة تلك التاريخ السياسي والعسكري من أوسع أبوابه وفي أفسح عَرَصاته وباحاته وساحاته، مثلما دخلت حياتنا العامة ونتفت ريشها على ثقافتنا الاستهلاكية والأدبية وهيمنت من بعد على الترميزات الشعرية والخطابية على طول وعرض المخيال الشعبي العربي من محيطه إلى خليجه. ولكم كانت السياسة في كل زمان ومكان مذ احترف وعرف الإنسان فن الحكم والسياسة والحرب، يضع من يشبه بالدجاج في موضع وضيع في مقام الجبن والذعر والارتعاب وقلة الحيلة. وسعت بخت الرضا قديماً في التناصر مع الدجاج، فعلقت في النفوس والذاكرة قصيدة جميلة لحنها محمد وردي عندما كان معلماً لتلاميذ مدرسة الديوم الشرقية عام 1957: دجاجي يلقط الحب ويجري وهو فرحان كأن عيونه خرز له في الشمس ألوان ولي ديك له صوت جميل اللحن رنان «ت» وعرف الديك بحسن الصوت واتصف بالبكور وصار عنواناً للفلاح، لكن الدجاجة لم تحظَ بكثير من محمود الذكر والصيت، سوى أنها مخلوق ضعيف لا يطير ويطيب لحمها ويستلذُّ حساؤها ويشتهى مرقها وطاجنها. وكنّا في المدرسة المتوسطة في نيالا الأميرية في منحى مفتتح الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت لنا جمعية أدبية أسبوعية يحضرها جمهور كبير من خارج المدرسة، وأذكر في إحدى هذه الليالي وكان الأخ الزميل الطالب النجيب آنئذ الشهيد عبد الحي الربيع رحمه الله وغفر له يقدِّم تلك الليلة، فتقدّم طالب من خارج المدرسة يدرس في مدرسة «إحياء نار القرآن» وهي معهد علمي متوسط للعلوم الدينية، جاء هذا الطالب ليشارك بطرفة فقال بلغة الطلاب المعهديين: « تشارك أربعة طلاب بالداخلية على شراء دجاجة من مطعم مشهور ليتعشوا بها، فلّما وضعوا أمامهم وهموا بالتهامها، قال قائل منهم: لن نأكل بهذه الطريقة فليأت كل واحد منكم بآية من القرآن الكريم فيها جزء من هذه الدجاجة فيأخذه، فقال الأول: قال تعالى في سورة البلد: «فك رقبة»، فأعطوه رقبة الدجاجة.. قال الثاني: قال تعالى في سورة الانشراح: «ألم نشرح لك صدرك»، فأعطوه صدر الدجاجة. قال الثالث: قال تعالى في سورة القيامة «والتفت الساق بالساق»، فأعطوه فخذي الدجاجة وساقيها.. واحتار الرابع، ففكّر ودبّر ثم عبس وبسر، ولم يجد أية من القرآن الكريم، فقرروا ترك باقي دجاجتهم للصباح، وبعد أن ناموا وفي جوف الأسحار من الليل قام الرابع والتهم ما تبقى من الدجاجة ومصّ عظامها مصاً، فلما أصبحوا تنادوا عليه واحتجوا ولاموه معنفين وقالوا لم تأتِ بآية كما اشترطنا.. فتبسم وقال عندي أية فقرأ عليهم من سورة «ن والقلم»: «فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم..»...! «ث» وغير بعيد من ذلك المنعرج في حياتنا الطالبية، كان الأستاذ الكبير أبوبكر سعيد، يذرع الفصل في نيالا الثانوية جيئة وذهاباً، يردد في درس البلاغة لبشار بن برد: ربابة ربة البيت تصبُّ الخل في الزيت لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت.. وفي دارفور يُصنع إدام من لحم الدجاج المجفف، خاصة دجاج الخلاء، وهو أشهى من الدجاج المنزلي المعتاد، ويوجد في وسط سوق أمدفسو في ذلك الوقت سوق للدجاج توجد فيه المئات من الأقفاص الخشبية وتأتي اللواري من القرى المجاورة وقد علّقت على جنباتها أعداد كبيرة من الدجاج البلدي متدلياً من أرجله معلقاً على عودين طويلين مربوطين على العربة، وكان صديقنا وزميلنا في المدرسة الفاضل إدريس المهندس حالياً في شركة النيل الكبرى للبترول، يحدثنا وهو يسكن في «البيطري الغربي» بحكم عمل والده وعلى مقربة من السوق، عن خصائص الدجاج وله في ذلك ملاحظات مهمة تضاف لسِفْر طويل في ما لا يُعرف عن هذا المخلوق البسيط الذي تقحّمته الأحداث وأقحمته في المحاولة الانقلابية الأخيرة.. وكان مَن بالمدرسة الثانوية من تعجبه قصيدة نزار قباني السياسية « ثورة الدجاج»: نحن دجاج القيصر.. نأكل قمح الخوف نشرب من أمطار الملح كل نهار يأتينا البوليس قبيل صلاة الصبح يستجوبنا.. يهددنا ويعلقنا بين السيف وبين الرمح نحن دجاج القيصر يعلقنا في فصل الصيف ويذبحنا في عيد الفصح.. «ج» وفي السياسة كان الأديب الفلسطيني الكبير «إسحق موسى الحسين» يتقارب من كامل كيلاني في كتابة قصص الأطفال، لكنه برمزية سياسية كتب عام 1943 قصة تحت اسم «مذكرات دجاجة» كتبها للأطفال، لكنها كانت رامزة سياسياً تحكي عن حوار يومي بينه وبين دجاجته التي تقبع في القن المخصص لها في البيت تقص عليه يومياتها وماذا فعلت وما مرّ بها خلال اليوم.. وتعتبر من القصص السياسية في التراث الحكائي العربي للأطفال.. وهناك قصة الروائي الأمريكي «فرنسيس ك. خوشو» التي أطلق اسم «النسر الذي ظُنّ أنه دجاجة» وتحكي عن صبي راعٍ صغير وجد بيضة نسر فأتى بها إلى قن الدجاج ووضعها مع بيض دجاجة يملكها ففقس النسر مع أفراخ الدجاج وعاش معهم فأخذ طباعهم ونسي أنه نسر، ودهش ذات مرة عندما رأى نسراً ضخماً يحلِّق في الفضاء، فسأل عن هذا الطائر المغوار الضخم ناسياً أنه من نسله فقيل له أنه نسر، فحاول النسر الصغير الطيران لكنه يظن أنه مجرد دجاجة مع الدجاج.. وهي قصة رائعة من قصص الأطفال، مثلها مثل قصة الدجاجة التي تبيض ذهباً وكانت لرجل عجوز وامرأته تهبهم كل يوم بيضة ففكراً بدافع الطمع فتح بطنها فماتت الدجاجة وانقطع سيل البيض الذهبي ..!! ولليهود غرام بالدجاج الميِّت فهو جزء من عقائدهم الفاسدة يأكلون الدجاج النافق في عيد «كيبور» وهو عيد الغفران زاعمين بالباطل أن الدجاج الميِّت يمحي خطايا اليهود ..!!! وتوجد قصة عن صعوبة دروس النحو والصرف في اللغة العربية أن أستاذاً جاء معه موجهان من وزارة التربية والتعليم في التفتيش الدوري حول مستوى المدارس وطرق التدريس لدى المعلمين، وفي الفصل قبل بدء الدرس بحضور الموجهين احتج الطلاب أن دروس اللغة العربية صعبة ولا يفهمونها فأحرج المعلم لكنه تنبه بسرعة، وقال لهم: فلنترك الحصة لموضع آخر فرسم لهم على السبورة زجاجة بعنقها الضيِّق وبداخلها دجاجة وقال لهم من يأتِ بالحل الصحيح «كيف تخرج الدجاجة من الزجاجة» فاحتار الطلاب وجاوبوا مئات الإجابات الخطأ وتفاعل حتى الموجهان مع هذا اللغز.. ولما استيأس الطلاب قالوا له:« لا يحلها إلا الدجاجة في الزجاجة».. فصفّق المعلم وقال لهم هكذا مادة اللغة العربية لن تفهموها إلا إذا أخرجتم دجاجة المستحيل من زجاجة عقولكم .!! «ح» وبالعودة لدجاجة المحاولة الانقلابية، فإن استخدام الدجاج في أعمال الشعوذة والسحر كثيرة، خاصة في مجال الرياضة وكرة القدم في السودان وغيرنا من البلدان، وتروى قصص كثيرة عن «الأناطين» وهو الاسم المخفف ل«الفكي» في مجال كرة القدم، ولطالما طلب هؤلاء الأناطين دجاجة حمراء وسوداء وبيضاء ومزركشة وعرجاء وغيرها لضمان نتيجة مباراة... وتزخر الثقافة الشعبية السودانية بهذا النوع من الممارسات، وتتمدد في بسط ثقافتنا أمثلة مثل «جدادة الخلا الطردت جدادة البيت» و«ماكِل الجدادة وخامي بيضها» و«البِباري الجداد بودنو الكوش» وغيرها من الأمثال والأحاجي والمُلَح الشعبية التي لم تترك الدجاجة هائنة في قنِّها... مثلما ما فعلت بالديوك.. «خ» ومن الطرائف أنه في الثمانينيات كان في السودان بعض الإخوة من الإسلاميين التوانسة درسوا هنا في الجامعات وبعضهم هاجر إلينا مثل محمد الهاشمي الحامدي، لكن أحدهم رجل لطيف المعشر دمث الأخلاق يسمى أحمد عياد، ومن كثرة معاشرته للسودانيين تحسبه لولا لونه سودانياً، ذهب مع مجموعة من أصدقائه وأصحابه من الإسلاميين يوم 25/5/1984م إلى قرية الجميعاب ريفي الكاملين بولاية الجزيرة، لحضور مراسم زواج الدكتور محمد محيي الدين الجميعابي، وفي مكان المناسبة تجمّع أطفال صغار من القرية، وكان أحدهم مستغرباً في التونسي أحمد عياد، فاقترب الطفل من الرجل وسأله: أنت من وين؟ رد عياد: أنا سوداني لم يقتنع الطفل بذلك وقال له: « كان إتّ سوداني قل وراي أسماء المناطق دي..»: فبدأ الطفل ويقول له سائلاً: -« قول الكسمبر» - يرد عياد: الكسمبر قول ود راوة -يرد عياد: ود راوة -قول المعيلق -يرد عياد: المعيلق.. أخيرًا قال الطفل: « قول كاب الجداد.. رد عياد دون أن ينتبه معطِّشاً حرف الجيم على الطريق التونسية: « كاب الدجاج» ..!!! «د» مظلومة هذه الدجاجة التي أدخلوها حَلَبة الصراع السياسي، الذي لم تكن من قبله شيئاً مذكورًا، ولا ندري كيف جاءت الفكرة الجهمنية لهذا الفكي الانقلابي الذي لابد أن يكشف للناس سر الدجاج الذي عُرف في طول التاريخ البشري بالجبن وقلة الحيلة.. إلا إذا كان الفكي يردد قول الشاعر العراقي فائز الأيوبي: أيّها الطاعنُ في حفظ الأناشيد.. وفي النميمة وهز الغدد ونسج الالتماسات.. إذا كنت دجاجة.. فلا تحارب الديوك برمي البيض الفاسد الذي ترتمي عليه كأرملة عذراء حقودة ولا تسمح لريشك أن يزكم أنوفنا بالموجعات .!
