تحدثنا من قبل عن التجنيب.. وأوردت (الإنتباهة) قبل يومين تقريراً يحتوي على حقائق عن التجنيب. فما هو التجنيب؟ التجنيب في اللغة هو وضع الشيء على جانب أي في مكان غير ظاهر وغير واضح للعيان لا يراه ولا يشعر به إلا الذي وضعه، والتجنيب في المصطلح وهو مصطلح إنقاذي بحت هو وضع المال العام خارج الدورة الطبيعية وإخضاعه لرؤية مدير المؤسسة أو مدير المصلحة أو الوزير أو... المعتمد أو الوالي.. وأهم ما في التجنيب أنه يُصرف بدون ضوابط ديوانية ودون الخضوع لإشراف الوزارة صاحبة الولاية على المال العام وهي وزارة الخزانة أو وزارة المالية. والآن لمزيد من الإيضاح نسأل ما هي علاقة التجنيب بآية «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله..»؟ والمعروف أن هذه الآية هي آية الحرابة أو آية المحاربين. ونصت على نوع من الجريمة سُمِّيت بجريمة الحرابة. «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم» قلت الحرابة معروفة وهي قطع الطريق وإخافة المارة أو المسافرين ونهب أموالهم بالقوة.. وهذه عقوبتها القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض بتفصيل يفرق بين كل جريمة من الجرائم الأربع المسماة حرابة ومحدد لكل جريمة واحدة من العقوبات المذكورة.. والسؤال المهم الآن ما هو الإفساد في الأرض؟ وماذا يفيد الواو في بداية قوله ويسعون في الأرض فساداً؟ هل هو للعطف أم للتفسير أي أن الحرابة إفساد في الأرض أو أن الإفساد في الأرض هو نوع من الحرابة؟ قال الإمام ابن كثير في تفسيره عن هذه الآية وكذا الإفساد يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم سعيد ابن المسيب أن قطع الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. ويقصد دراهم ودنانير الذهب وقطعها هو تقطيعها صغارًا وبيعها وبذلك يختلط الصحيح من الذهب والفضة بغير الصحيح فيشتريه المشترون بأكثر من ثمنه وهو غش واضح. وإذا كان تقطيع الدراهم والدنانير غش ويعتبر من الفساد في الأرض الذي يعاقب معاقبة الحرابة بالقتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي فمن باب أولى أن يكون التجنيب من الإفساد في الأرض لأن التقطيع في مال المفسد والتجنيب هو آخذ بنوع من القوة والسطوة للمال العام المملوك للأمة.. ألا ترى أنه قال إن الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر ثم قال حتى أتى في آخر ما عدَّده أن قطع الدراهم من الإفساد في الأرض.. وهذا يعني أن التجنيب من الإفساد في الأرض وهذا الذي أورده بن كثير واستدل عليه بقول سعيد بن المسيب وبما جاء في الموطأ عن تقطيع الدراهم يدل دلالة واضحة على أن الواو في الآية للعطف لأن قطع الدراهم يختلف عن قطع الطريق. وبهذا نستطيع أن نقول اجتهاداً بانضباط لا بأس به أن التجنيب جريمة حدية ذات عقوبة محددة تتراوح بين القتل والصلب والقطع من خلاف والنفي من الأرض. وإذا عدنا إلى التقرير الذي أوردته «الإنتباهة» عن حجم التجنيب وطريقته فنجد أن 15 وحدة حكومية بينها الداخلية والزراعة تقوم بالتجنيب وأن من بين الوحدات أيضاً الدفاع وعلى أي حال فإن السطوة التي تتمتع بها هذه الوحدات الحكومية تدخل عملية الجباية هذه في دائرة النهب المسلح لأن المكلف يقف مكتوف الأيدي إما أن يدفع وإما أن يفقد مصدر رزقه بالمصادرة أو بالاعتقال والسجن إذا تطاول به الأمر.. وهي على أقل تقدير حسب ما أوردنا آنفاً من ضرب الإفساد في الأرض وقد أورد التقرير أن المخالفات المالية تشتمل التحصيل والتجنيب والصرف خارج الميزانية.. وهذه جرائم ثلاث كل واحدة تستوجب العقوبة التحصيل نصب مسلح والتجنيب تغول على حق عام والصرف خارج الميزانية سرقة بينة خاصة إذا علمنا إن التقرير أورد أن الصرف يكون على الحوافز والمكافآت، والعجيب أن الأرقام التي وردت في التقرير متواضعة جداً ولكنها حتماً تكفي لإقامة الحد فما معنى أن يكون التجنيب 497 مليون جنيه «يعني 47 مليار» و5 مليون دولار يعني حوالى 60 مليار جنيه أو مائة ألف يورو؟! إن الذي نعرفه عن التجنيب وأنه ظل مستمراً لعدد من السنوات يزيد على هذه المبالغ بأضعاف مضاعفة وأن الميزانية العامة للدولة منهارة بسبب التجنيب وبسبب الصرف خارج الميزانية!! هذه الجريمة جريمة بشعة ونكراء وأقعدت البلاد وأضعفتها حتى أوشكت أن تركع أمام أعدائها وأوهنت قواها وأدخلت البغضاء والشحناء والكره بين الحاكم والرعية وأساءت للشريعة كنظام حكم. إن التجنيب هو اسم الدلع للسرقة أو هو اسم التدليس للإفساد في الأرض ومحال والحال هذه أن تكون عقوبة التجنيب هي السجن أو الغرامة.. إن الصلب في ميدان أبوجنزير أو القطع من خلاف هما العقوبتان المستحقتان لكل من جنب درهما أو ديناراً. إن من جنّب فقد سرق. ومن جنّب فقد أفسد في الأرض.. ومن جنب فقد أرتكب جريمة الحرابة.. ومن جنب استحق أن يقام عليه الحد.. فمتى يقام الحد جهاراً نهاراً في ساحة أبوجنزير أو في الساحة الخضراء على شخص واحد ممن ارتكب جريمة الإفساد في الأرض؟متى؟ متى؟