قبل حوالى أكثر من ألف وثلاثمائة عام، قال أحد الفلاسفة لتلاميذه: «إذا أردتم أن تعرفوا رقي الأمة أو تدهورها، فاستمعوا إلى غنائها».. ومن فورهم جرى التلاميذ متفرقين ليعرفوا في أية أمة يعيشون وليختبروا نظرية معلمهم.. وبعد مرور عشرة قرون على نظرية ذلك المعلم جاء الفيلسوف المشهور ابن خلدون وقال: «إن أول ما ينقطع من عمران الدول عند اختلاله وتراجعه صناعة الغناء».. وقد انفرد ابن خلدون من بين جميع حملة الأقلام في تاريخ الأدب والفن والفكر بقوله هذا، حيث عرّف بالتفصيل كيف تدرجت وتطورت صناعة الغناء من بدايتها في القرن الأول الهجري، على أيدي الرواد الأوائل مثل طويس وابن سريج وابن محرز ومعبد وجميلة حتى بلغ الفن غايته في عهد بني العباس، على أيدي العباقرة أمثال إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابن جامع وابن المهدي ومخارق وعريب ومتيم وفريدة وكُثير مطرب خمارويه أمير مصر وابنته قطر الندى. وإذ ننظر في مستوى غنائنا السوداني نجد أن نظرية الفيلسوف السابق لابن خلدون تضعنا أمام غناء بدأ في عهد الاستعمار قوياً وساهم في مقاومة المحتلين منذ أغنية «عازة في هواك» مروراً بغناء الغزل الذي دعا إلى طهارة الحب وإعلاء قيم الحرية.. «يا أم جدايل قودي الرسن واهتفي فليحيا الوطن».. وجاء الفنانون الذين أثروا الساحة الغنائية فيما بعد، في عهد سرور وكرومة، وهم الكوكبة التي عاصرت الاستقلال مثل عبد العزيز محمد داود وأحمد المصطفى وعثمان الشفيع، وكل من تغنى بأغاني الحقيبة في ذلك الزمان. وبهذه المناسبة قد لا يعلم الكثيرون أن اسم «الحقيبة» قد جاء مشتقاً من اسم البرنامج الغنائي الذي كان يقدمه الأستاذ المرحوم المبارك ابراهيم «حقيبة الفن» واستمر هذا البرنامج لسنوات عديدة وانطبع في ذاكرة الناس أن الأغاني من تلك الشاكلة اسمها أغاني حقيبة الفن أو أغاني الحقيبة اختصاراً.. وازداد الغناء قوة وثراء بمن أدخلوا آلات الموسيقا والتطريب لاحقاً.. مثل الكاشف وإبراهيم عوض ووردي، وقادوا ثورة الفن الغنائي المموسق. والآن ينحدر الغناء إلى الدرك الأسفل معبراً عن أجسام البغال وأحلام العصافير.. وقد ساقني حظي العاثر أن أستمع الى بعض »المطربين القشاشة« الذين لا يجدون غير أن »يطرشوا« ما سمعوه من الآخرين. بعد أن يقوموا »بتفجيخ« اللحن والكلمات.. وكثيراً ما شاهدت أحد الفنانين أو الفنانات وهو »يبرطع« و»يترس« و»يفنجط« في رقصة »القرد«. والتردي الذي ضرب أوجه الحياة المختلفة لم يستثنِ الغناء والفنون، ذلك لأن التردي الاقتصادي يكاد يلعب الدور الرئيسي والعامل الحاسم في انحطاط وانهيار مظاهر الحياة والرقي.. فقد أفرز الواقع الاقتصادي شريحة جديدة في المجتمع استأثرت بمعظم التمويل واتجهت نحو الأعمال الطفيلية وابتعدت عن قضايا التنمية، وتمظهر سلوكها العام ونمط حياتها السائد في البذخ والشوفينية.. ومن أجل هذه المجموعة الجديدة في المجتمع انحرف الغناء السوداني بعد أن كان يمجّد الأعمال البطولية والشجاعة للجيوش وللضباط وللأطباء والمهندسين، انحرف الغناء لوصف »الكرسيدا.. السمح سيدا« وانحرف الغناء لكي يمجد حياة البذخ والترف للذين »يدلقون« الأموال السائلة على رؤوس المغنيات فجاءت الأغنية التي تقول »بالدولار أبا لي بالريال أبا لي« لكي تكرّس نحو تفضيل الفئة الغارقة في تجارة العملة بيعاً وشراءً وتحويلاً.. ثم مع المزيد من مظاهر التدهور انتشرت مشكلات الصكوك المصرفية لتتكون شريحة جديدة في المجتمع، اسمها »الجوكية« ومجموعة الشيكات الطائرة والتي تعتبر في حد ذاتها من الأمراض الاجتماعية. وظهر لدينا مئات المطربين قدامى وقادمين، شبابًا وكهولاً، ونساء ورجالاً وبنات وأولاد الغد وأولاد الأمس وأولاد »الإيه«... وازدادت أعدادهم بقدر ازدياد أعداد صوالين الأفراح.. فهناك مطرب »قدر ظروفك« وهناك مطرب »أوفر نايت« وهناك مطرب »مضروب« وارتفعت أجور المطربين وبعضهم صار غنياً جداً وصرح بأن أمواله تراكمت حتى أن »الككو ما بنطها« وليلة المطربة المعروفة وصلت خمسة عشر مليونًا والمطربات القشاشات بين الخمسة والثلاثة ملايين. وزاد الطين بلة بما أدخله المغتربون في دول الخليج من مظاهر الصرف البذخي ونقل عشوائية الشعوب الأخرى بالتقليد الذي لا يراعي الثقافة المحلية وتحولت كلمة »مغترب« نفسها لكي تعني وظيفة محددة المعالم كأن تقول مهندس أو طبيب أو تقول »مغترب« ولن يفرق كثيراً إن كان هذا المغترب »رعاوي« أو أحد العاملين في »المصارف«. كسرة: المؤتمر الوطني يطالب بإرادة سياسية لحكومة الجنوب حتى يتم إنفاذ اتفاق التعاون الموقَّع بين الطرفين... ولكن نؤكد أنه لا توجد إرادة سياسية للجنوبيين أولاً لأنهم أصلاً لم يفهموا حتى الآن أنهم انفصلوا واستقلوا عنا ولا يزالون يعتقدون أنهم متمردون علينا.. ثانياً تعودوا منذ الاستقلال في عام 1956م أن نمدهم بالطعام وأن نبني لهم ما يسكنون وينتظرون الآن أن يفعل لهم الخواجات ما كنا نفعله لهم.. يا جماعة هؤلاء الجنوبيون ليس لديهم إرادة أياً كان نوع هذه الإرادة.. ومن ينتظرهم سوف ينتظر طويلاً... يا جماعة أنسوا الموضوع ده!!! يا جماعة أحسن نفاوض أسيادهم من الأمريكان والخواجات الآخرين.