ثمة أمور وقضايا تستحق النقاش بدقة ووضوح حتى تفهم على الوجه الصحيح ولا تكون عرضة للتأويل والتفسير المتعجل، ومنها قضية المصفوفة حول الترتيبات الأمنية بين دولتي السودان وجنوب السودان التي أمنت عليها واعتمدتها قمة الرئيسين البشير وسلفا كير في أديس أبابا الأسبوع الماضي.. واستمعنا مساء أول أمس في لقاء تنويري بنادي الضباط لرئيس اللجنة الفنية وعضو اللجنة السياسية الأمنية المشتركة الفريق الركن عماد عدوي، وهو يقدم شرحاً تفصيلياً مطولاً حول المصفوفة التي أعدت لجداول ومواقيت تنفيذ الاتفاق المتعلق بالتدابير والترتيبات الأمنية بين البلدين والتي من شأنها لجم التوترات الأمنية والتردي نحو قاع المواجهات بين الجانبين. وبالرغم من أن الشرح كان وافياً ومحيطاً بقضية الترتيبات الأمنية واتفاقها الموقع في 27سبتمبر 2012م وما يجري الآن على الأرض، وحصل الصحافيون والإعلاميون على معلومات مهمة للغاية ووضعت الصورة كاملة أمامهم، إلا أن مسألة التنفيذ وثقة كل طرف في الآخر تظل هي محك ومحط اختبار حقيقي لا يمكن إغفاله، في وقت مازالت فيه الإرادة السياسية في البلدين، خاصة في دولة الجنوب، ليست بالقوة الكافية لاغتنام ما اتفق عليه. ثم أن هناك قضية تحتاج لتوضيحات وشروح أطول حول فك الارتباط بين دولة الجنوب وقطاع الشمال، ويبدو أن مفهوم فك الارتباط مازال ضائعاً بين المفهومين السياسي والعسكري، فما فهمناه من تنوير الفريق عماد عدوي، هو المفهوم العسكري.. وحتى هذا كما فهمنا، لا يتجاوز قيام دولة الجنوب بتسريح الفرقتين التاسعة والعاشرة من الجيش الشعبي، وقوامهما أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق، كما فعل السودان عندما تم تسريح كل أبناء الجنوب في القوات النظامية وإعطاؤهم حقوقهم وإنهاء خدمتهم!! ثم من بعد ذلك يتوقف دعم قوات قطاع الشمال وعدم مساندتهم بأي شكل من أشكال الإمداد العسكري.. فهذا المفهوم يعتبر منقوصاً إذا لم يتكامل معه فك الارتباط السياسي، بعدم إيواء القيادات السياسية لقطاع الشمال بالحركة الشعبية ووقف أي نشاط سياسي ودعائي وإعلامي أو تحركات واتصالات مع قوى دولية أو منحهم تسهيلات مثل الجوازات وغيرها، أو أية تحركات أخرى تنطلق من جنوب السودان.. فقطاع الشمال ليس هو الوجود العسكري في جنوب كردفان والنيل الأزرق، فدولة الجنوب تحتضن قياداته وتأويهم وتدعمهم بالمال والسلاح والاتصالات السياسية، وتوفر لهم فرص الالتقاء بمسؤولين من دول كبرى ودول في الإقليم، وتسهل أسباب الحركة والتنقل في دولة الجنوب وخارجها. ففك الارتباط العسكري فقط لا معنى له إن لم يكن كاملاً شاملاً كل هذه الأنشطة والتحركات، فهناك ألف حيلة للالتفاف على إجراءات فك الارتباط بمفهومه العسكري إن لم يتبع الرأس الذنب كما تقول العرب.. والشيء الآخر يبدو أن المذكرة المكتوبة التي وعد رئيس دولة الجنوب بكتابتها وتسليمها للوساطة الإفريقية حول التزامه بفك الارتباط مع قطاع الشمال بالحركة الشعبية، لم تبحث جيداً، وليس من الحكمة القبول بها على هذه الكيفية، فهذه المذكرة المكتوبة أو تعهد سلفا كير، ليست لها أية قوة سياسية أو مدى إلزامي أو أساس قانوني تقف عليه، ولا تعدو أن تكون التزاماً أدبياً فقط، ربما تنكره حكومة الجنوب غداً وترفض التعامل معه أو تفسره على غير التفسير الذي فهمته حكومة الخرطوم. فالمطلوب في فك الارتباط، أفعال وترتيبات تشبه ما جاء في المصفوفة ومواقيتها وجداولها الزمنية، وليس أقوالاً ومذكرات كتابية وأحاديث تلقى على عواهنها أو تُقال في الغرف المغلقة. أما عن مصفوفة الترتيبات وجداولها الزمنية وفرق التحقق وآلية المراقبة، فما هي الجهة النزيهة المؤهلة التي تصلح للفصل في تعارض التفسيرات أو تفصل في الشكاوى؟ أليست هي آلية أمبيكي التي خذلتنا وقدمت مقترح استفتاء أبيي الذي رفضته الحكومة بشدة؟!