لم يعتد المؤتمر الوطني أن يترك مؤتمراته ومناسباته مفتوحة الآجال أو معلقة دون تحديد سقوفات زمنية قاطعة فهو الذي يمتلك المال والسلطة والنفوذ والوسائل والآليات وكل «المسهلات» الأخرى التي تمكِّنه من تنظيم مؤتمراته «الشورية أو العامة وكل مناسباته وأنشطته الأخرى متى ما أراد وكيفما أراد. ولكنه بالأمس القريب وتحديدًا الخميس الماضي حملت الأخبار أن المؤتمر الوطني وعلى لسان ناطقه الرسمي البروفيسر بدر الدين إبراهيم خرج بإعلان فيه كثير من الأبعاد والدلالات والتفسيرات المتعددة والتي ربما لا تعبِّر عن حالة صحية يعايشها هذا الحزب الكبير والمتمدد على طول وعرض جغرافية السودان. حيثيات الإعلان تقول إن قيادة المؤتمر الوطني أقرت تأجيل مؤتمر شورى الحزب إلى أجل غير مسمى.. وبررت ذلك بأنه لمزيد من الترتيبات والتجهيزات. لكن ربما يفهم أن عدم تسمية هذا الأجل أن هناك صعوبة أو أن هناك عقبات أو معطيات جديدة فرضت نفسها بقوة على المسرح الداخلي للحزب، وأكدت أنه ليس بالإمكان أن يعقد أهل الشورى مؤتمرهم في هذا الظرف المفصلي الذي لا يواجه المؤتمر الوطني فحسب وإنما يواجه كل مكونات الدولة السودانية ولكن نفترض أن الذي يعانيه الحزب على الصعيد الداخلي أن المواعين الشورية على المستوى المركزي والولائي حدثت فيها كثير من الاختلالات التجاوزات أدت إلى إضعافها وبالتالي عدم قدرتها على استيعاب تيارات المد الداخلي التي تنامت وتصاعدت بشكل مثير ومقلق ويحتاج إلى توقف وتأمل وتدارك ولم يعد الحديث عن حقيقة هذه التيارات محصورًا في دوائر المجالس الخاصة أو الغرف المغلقة أو اجتماعات الساعات الأولى من الصباح ولكنه بات حديثًا جهيرًا تتناقله الميديا والوسائط السياسية وفي كثير من جزئياته يأخذ هذا الحديث الجهير طريقه إلى الآلة الإعلامية. والواقع الذي تعاني منه شورى المؤتمر الوطني تتحدث عنه الشواهد وظاهرة الجنوح إلى الجهويات التي نرى حقيقتها في كثير من الولايات فهناك أزمات واضحة داخل كيانات المؤتمر الوطني ففي النيل الأزرق والٍ في واجهة العاصفة ليس لشيء سوى أنه ليس من بني جلدتها وفي ولاية الشمالية والٍ دفعته الأقدار إلى كرسي الرئاسة إلا أن أهل الشورى هناك يطبخون طبختهم للدفع بآخر لقيادة الولاية في المرحلة المقبلة، أما في أرض الكنانة «الجزيرة» فيواجه الزبير بشير طه عواصف المذكرات وهجمات الحرس القديم، وفي جنوب كردفان تهتز الأرض من تحت عرش أحمد هارون بفعل أسلحة القبيلة وموازناتها الباحثة عن مناصب دستورية من كيكة الولاية، وفي البحر الأحمر أُفرغت الشورى من مواعينها والوالي أخذته عزة القبيلة فبنى لنفسه إمبراطورية خاصة لا تبالي بأصوات الآخرين إلى جانب عدد من ولايات دارفور التي تمزقت فيها مواعين الشورى وبداخل كل ولاية من هذه الولايات أزمة مستعصية وشورى منتهَكة وحكومة مضطربة تجنح كثيرًا إلى ممارسة أساليب الديكتاتورية وتختزل السلطة وقراراتها في ذات الوالي دون الأخذ برأي الأغلبية التي أعطت الشرعية للوالي «المستبد» فتجدَّدت ظاهرة المذكرات المحمولة إلى المركز تطالب بإقالة فلان وتعيين علان وبذلك أصبحت هذه المذكرات أفضل الخيارات وأيسرها لكل من ضاقت به مواعين الشورى. ولأن الشورى هي الركيزة الأقوى في بناء الدولة الراشدة وتصحيح مساراتها إن هي حادت عن الطريق كان لا بد أن تُتاح لها كل الفرص حتى تقول رأيها بكل شفافية خصوصًا في القضايا التي أشكلت كثيرًا على القيادة فالمؤتمر الوطني الآن في حاجة إلى إرادة قوية تستند إلى صف واحد ورؤية متحدة فهو الآن أمام تحدٍ لمواجهة ثلاث قضايا محورية وأساسية يمكن أن تُخرجه من عنق الزجاجة إذا أفلح في التعامل معها بمنطق العقل والرشد والمصالح العليا للسودان. القضية الأولى الحوار مع الآخرين تلك هي القضية التي أرهقت رجال الإنقاذ كثيرًا لكنه لم يصل بشأنها بعد إلى مرافئ أو نهايات سعيدة.. ومبعث الإرهاق الذي أصاب الوطني أن دعوته دائمًا قائمة على شكل أقرب للارتجال والتصورات الشفاهية لبعض قادته النافذين وبالتالي هي فاقدة للشفافية والإرادة الغالبة ولذلك ظلت هذه الدعوة «الحوارية» مبعثًا للشك والريبة والتردد من الآخرين. والقضية المحورية الثانية التي لا يزال سجالها مستمرًا هي العلاقة مع الدولة الجنوبية الوليدة وكيفية تفكيك تعقيدات هذه العلاقة وتأطيرها بما يخدم مصالح الشعبين الشمالي والجنوبي، ولكن تبقى القضية الأبرز في هذا الملف «عقبة قطاع الشمال» الذي عصي واستعصي ورفض «الفطام» من الحضن الجنوبي ودعوة البشير سلفا كير إلى ضرورة فك الرباط ما بين قطاع الشمال والدولة الجنوبية ربما لم تكن دعوة منطقية لأن هذا الرباط ليس سياسيًا أو مصلحيًا أو تآمريًا فحسب ولكنه رباط فكري وعقائدي يستند إلى قيم ومبادئ «حمراء».. من الصعب جدًا التنازل عنها. ولكن الأغرب من كل ذلك أن المؤتمر الوطني حتى الآن لم يرسُ على مبدأ أو محطة واحدة فهو يحتاج إلى أعمال العقل وتنشيط مواعين الشورى حتي يصل الحزب الي فهم محدد يستند علي قاعدة عضويته والواضح انه حتى الان لا يبدو ان هناك موقف واحد معلن من جانب الوطني يحدد الصيغة السياسية التي يمكن التعامل بها مع «قطاع الشمال». وقضية أخرى ثالثة تعتبر مصيرية لحزب المؤتمر الوطني وتمنحه شرعية البقاء أو الفناء هي مسألة الدستور الإسلامي والتي تعني بالأخص الشريعة الإسلامية فالحراك الذي يجري الآن لا يخرج عن مسارات المجموعات الإسلامية في الدولة وبالتالي هو يحتاج إلى فضاءات أخرى على مستوى المسرح السياسي ككل وهذا يعني الخروج بوثيقة الدستور المرتقبة من مواعين الشورى الضيقة إلى أجواء الديمقراطية والتعددية السياسية لأنه ليس من المنطق أن يعد هذا الدستور بمعزل عن الآخرين خصوصًا إذا كان هؤلاء الآخرون لهم تأثير في مجريات الحياة السياسية في السودان.