الدعوة التي وجهتها سوزان رايس لنظام الحكم في السودان بأن يبدأ المفاوضات مع قطاع الشمال دون قيد أو شرط تبرز مدى المهانة التي تتعامل بها الولاياتالمتحدة مع النظام، والذي ظل يبتلع المهانة تلو المهانة، دون أن يواجه أمريكا والمجتمع الدولي أو حتى في الداخل أو الإقليم بالحجة الدامغة التي تدعم موقف السودان في المحافل الدولية والإقليمية. ومن غريب القول ذلك الذي يعتمده مسؤولونا في تقييم الأحداث وسيرها، حيث يظن البعض أن تغيير النظام في أمريكا قد يأتي بسياسة جديدة وأن أمريكا تمر بعد الانتخابات بفترة انتقالية جديدة، يظن فيها الظانون في السودان أن السياسة الأمريكية تجاه السودان سوف تتغير!! السياسية الأمريكية يتم رسمها.. وخاصة الخارجية.. ليس بواسطة الحزب الحاكم ولا تترك له ليغير في مساره، فذلك عمل مؤسسات متخصصة كمعهد الدراسات الإستراتيجية «CSIS» الذي يوجه السياسة الخارجية للحزبين، ولا يجرؤ أيٌّ من الحزبين تغييرها والمساحة الوحيدة التي تترك للحزب الحاكم هي طريقة التنفيذ، فالاختلاف بين الحزبين ليس في السياسة بل في طريقة تنفيذها!!.. لقد ارتضى النظام اتفاقية نيفاشا صاغراً، فعليه تقبل نتائجها المترتبة على ذلك القبول المذل وكما هو معلوم فقد وضع «CSIS» السيناريو الأخير لاتفاقية نيفاشا بعد أن تم تصميمها في هايدلبرج في ألمانيا، والحزب الحاكم ديمقراطياً كان أم جمهورياً ملزم رغم أنفه بالتنفيذ!! السياسيون في السودان وخاصة في النظام يمتازون بقصر النظر حيث يظن الكثيرون أن الولاية الثانية لأوباما هي الأخيرة بالنسبة له وليس لديه ما يخسره وبناءً على ذلك يأملون في تغيير سياسة أمريكا الخارجية تجاه السودان وحتى يطمئن هؤلاء أذكِّرهم بأن آخر قرار اتخذه أوباما على السودان وهو مقبل على الانتخابات هو تجديد العقوبات على السودان عام آخر!! أوباما كان سيخسر كثيراً لو لم يجدد العقوبات على السودان، وكان تجديده للعقوبات ضمن الدعاية الانتخابية، فهل يمكن لأمريكا التي تمر بفترة انتقالية كما يظن البعض أن تغير من سياستها الخارجية تجاه السودان أو أية دولة أخرى. فالحزب الذي يحكم في أمريكا لا يملك الحق في تغيير السياسية الخارجية، وتترك له فقط الحرية في طريقة التنفيذ، لذلك عندما تُصرِّح سوزان رايس فإنها تصرِّح من منطلق سياسة وضعت وهي واجبة التنفيذ، ولا تؤجلها فترة انتقالية الحكم، سواءً من حزب إلى آخر أو ذات الحزب وذات الرئيس.. سياسيونا يتعاملون مع العالم، بذات الطريقة التي يتعاملون بها مع بعضهم البعض، فليس لهم إستراتيجية يسيرون عليها، فكلما تسلّم حزب أو جماعة السلطة، لعنت سابقتها، وبدأت من الصفر.. ومراكز الأبحاث على كثرتها لا ترسم سياسة أو إستراتيجية، فالذي يتولى إدارتها لا يجرؤ على تقديم النصيحة المبنية على دراسة حقيقية، فالدولة هي التي صنعت تلك المراكز وهي التي توجهها، ولا مجال للعلم والبحث العلمي في تسيير السياسة كما في الدول التي ترسم لنفسها الإستراتيجيات الطويلة الأمد والتي تأتي الحكومات المتتالية لتنفيذها!!. كنت أعمل في الهيئة القومية للمياه الريفية وأسند إلى في مرات كثيرة مراجعة المخازن وقد وجدت بعض المواسير والمعدات بتاريخ العام ثلاثة وخمسين من القرن الماضي ومكتوباً عليها «مشروع سد مروي»، إستراتيجية وضعها الإنجليز منذ أكثر من ستين عاماً تم تنفيذها بعد أكثر من نصف قرن من الزمان، وحتى بعد تنفيذ السد الحلم، بات مجرد حائط جميل وضخم يتغزل فيه النظام، ولكن ما الأثر الاقتصادي لتلك الطاقة؟ هل زاد الإنتاج الصناعي والزراعي؟، وهل قلّت تكلفة الطاقة الكهربائية على المواطن؟ كل هذا لم يحدث رغم ما قيل ويقال عن أن الطاقة المولدة مائياً أصبحت تمثل أكثر من ثمانين في المائة من الطاقة المولدة، بل على عكس ذلك أصبحنا نستورد الطاقة الكهربية من إثيوبيا..!! وفي تسعينيات القرن الماضي قدّم الشهيد محمود شريف طيب الله ثراه مقترحاً بشراء الطاقة من إثيوبيا، لكن البعض تصدى له وطالب بقطع لسانه، رغم أنه من العلماء القلائل الذين يمكنهم رسم إستراتيجية للطاقة في السودان يمكن أن تعتمد عليها الزراعة والصناعة وتنمو، ولكن سرعان ما أُزيح من منصبه وضاعت على البلاد فرصة ذهبية لحل أكبر المعضلات التي تواجهها!! في السودان ليست هناك إستراتيجية وعلى عكس ذلك الولاياتالمتحدة، فإستراتيجية أمريكا مبنية على دراسات وتحليلات عميقة، أما في السودان فتبنى على افتراضات خاطئة تأتي في نهايتها بكارثة سياسية واقتصادية واجتماعية تطيح في نهاية الأمر بمستقبل ووحدة وبقاء البلاد!!. ما يدور اليوم هو من ملحقات نيفاشا.. عرمان وعقار والحلو هم من نتاج نيفاشا، وقد أعلنها عرمان صراحة يوم توقيع البروتوكولات الستة، أن هذا النموذج سوف يطبق على دارفور والشرق والمناطق الثلاث، فما لكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضه، وقد حذرنا من مغبة توقيع نيفاشا والقبول بها، أما كان هذا التصريح يكفي لنسف الاتفاقية من أساسها؟!!. وقد جاءت بعض بنود نيفاشا مزدانة بالشريعة حتى تغطي السوءات ولكنها لم تنجح لا أرى في النظام الحاكم من شريعة إلا ما رآه الناس في فرعون وهو يسير وسط الناس في زي لا يراه إلا هو!! القضايا القومية تواجه قومياً ولا تترك ليحلها البعض بظنون وتوقعات خاطئة تدخل البلاد في نفق مظلم لا مخرج منه، كما أنها تعالج بكسب تأييد المجتمع الدولي والقوى المؤثرة فيه، ولكننا انعزلنا عنه بمحض إرادتنا وأسلمنا مصيرنا لأمريكا.. رغم أن الإسلام والاستسلام لا يتم إلا أمام الواحد الأحد!!