محزن للغاية ما يجري في محلية السريف وما جاورها في ولاية شمال دارفور، حيث يدور صراع قَبَلي لا مبرِّر له على الإطلاق، بين مجموعات من الرزيقات الأبّالة وقبيلة البني حسين، وهم أبناء عمومة نزغ بينهم الشيطان أولاً ثم تحرَّكت الفتنة وأشعلت المنطقة التي تتزاحم فيها الأشلاء والدماء، ولم يسبق في تاريخ الصراعات القبليَّة في دارفور حدوث أعمال قتل وحرق ونهب بهذه السرعة وفي وقت قصير، ولعلَّ السبب الرئيس في كل ما حدث أن هناك يدًا ثالثة تدخَّلت لصناعة الفتنة بين الطرفين اللذين لم يكونا على خلاف أو احتكاك على مرّ تاريخ هذه المنطقة التي تقع في الركن الجنوبي الغربي من شمال دارفور.. بدأ الصراع بأحداث معزولة في منجم جبل عامر، وهو صراع بين أفراد من الجانبين، لكن الحميَّة القبليَّة وربما الأصابع التي كانت تعبث بأوتار القبليَّة الحسَّاسة، ساهمت في توسيع دائرة المواجهات والصدام، وتنادى أبناء هذه القبائل والمجموعات السكانيَّة من كل حَدَب وصَوْب وأصغَوا للفتنة الهوجاء وحدث ما حدث في المرة الأولى في يناير الماضي.. ثم بُذلت مساعٍ من بعض أبناء هذه القبائل وأطراف أخرى وحدثت تهدئة هشَّة سارعت حكومة الولاية في جعلها رغم هشاشتها صلحاً بين الطرفين دون أن تتوفَّر ظروف ملائمة واستحقاقات لهذا الصلح القَبَلي، الذي كان بالفعل في حاجة لجرعة تركيزيَّة أفضل وصيغة ومعالجات تضمن عدم تكرار ما جرى.. وكان الوقت مبكِّراً لإقرار وإبرام التصالح النهائي بيد أنَّ ما تم الاتفاق عليه هو هدوء سبق عواصف جاءت فيما بعد... مع نهاية الأسبوع الماضي تفجَّرت الأحداث وراح ضحيتَها عشرات القتلى من الأبرياء في السريف بني حسين وبعض القرى والفرقان من الطرفين، وتشرَّدت مئات الأُسر وهام البعضُ في الفلوات والخلاء الواسع، وتكسَّرت القلوب الزجاج التي كانت تحافظ على ودّها وعلاقاتها الحميمة لعهود طويلة في هذه المناطق.. لكن مَن المسؤول عن كل الذي حدث؟ بلا شك هناك جهة مستفيدة من هذا الصراع الدموي، سعت بالفتنة بين الطرفين وأجَّجت نيرانَها يجب البحث عنها أولاً، وذلك لعدة أسباب.. 1/ لم يكن هناك خلاف قَبَلي أو تضارب مصالح أو تنافس أو تكالب على موارد بيئية أو غيرها بين قبائل الرزيقات في شمال دارفور وقبيلة البني حسين، كانوا إخوة لا تفريق بينهم ولا فواصل، متصاهرين متعايشين بحكم المنبت والأصل والتشارك في العادات والتقاليد والمكان والبيئة والظروف وطبيعة الحياة.. 2/ خلال هذه الفترة التي شهدت تمرد دارفور ونشوء الحركات المسلحة واستهدافها للأهالي والمواطنين واعتدائها على المدن والقرى والفرقان، كان هناك تنسيق مشترك ومواجهة من الطرفين معاً ضد المتمردين وأفلحا في لجْم شيطان التمرُّد في المنطقة ومواجهته وتصفية جيوبه حتى انحسر وتلاشى.. 3/ ظلت الآصرة وعلاقة الدم والصلة التاريخيَّة بين البني حسين وكل أفرع الرزيقات الأبَّالة قويَّة ومتصلة تتكامل فيها المواقف والمنافع وتسود أعراف ظلت مرعيَّة ومُصانة لأنَّ الأصل واحد.. ونظراً لهذه العوامل، فإنَّ المستغرَب حقاً حدوث هذه الحرب القبليَّة المخزية والمحزنة، ويقود هذا الاستغراب ليس لافتراض إنما ما يشبه اليقين أن هناك يدًا ثالثة دخلت بين الطرفين وحرَّكت المشاعر القبليَّة الضيقة وأثارت النعرة النتنة وحرَّكت ضغائن صغيرة وضخَّمتها وأفرزت هذه الطامّة الكبرى التي حلَّت بالمنطقة... وإلى حين الكشف عن حقيقة اليد الثالثة يتعيَّن على الحكومة الاتحاديَّة التحرُّك السريع، لأنَّ هذه الأزمة أكبر من حكومة ولاية شمال دارفور ومن قدراتها على الحل، تحرُّك الحكومة الاتحادية عبر القوات المسلحة والقوات النظاميَّة مهمَّته حماية السريف بني حسين والقرى والفرقان وبسط الأمن وفرض هيبة الدولة ووقْف كل أشكال الاعتداء من الطرفين، وتحريك كل القيادات الأهليَّة من زعماء الطرفين وقيادات القبيلتين للبحث عن مخرج سريع ينزع فتيل الفتنة ويُطفئ نارها قبل أن تقضي على الأخضر واليابس وكفّ أيدي المعتدين عن الأبرياء.. ثم التفكير في كيفيَّة صناعة السَّلام والاستقرار في المنطقة ووضع خطط بعيدة المدى تُنهي ظاهرة الصراع القبلي دون اللجوء للحلول القديمة المتكرِّرة ومؤتمرات الصلح التي تُعقَد منذ أربعة عقود وتزيد ولم تزد النارَ إلا اشتعالاً والناسَ إلا خبالا...