ثم يعلم السيد سلفا أخيراً أن تحقيق التوافق بين النخب السياسية الجنوبية: شيء بعيد المنال فالقرارات التي أمامه الآن سري للغاية لا تساوي الحبر الذي كتبت به كونها لن تجد طريقها للتنفيذ.. السيد سلفا الذي يستدعي كل خبرته التراكمية بطابعها العسكري، ويقاطع نبيذه المُكلف وحريمه، يجد أن مؤسساته الحاكمة هي محض مؤسسات للترضية والمحسوبية، إذ تم خلق العشرات من الوظائف والمواقع السياسية، ذلك لأن الجميع يود أن يُجعل له خرجاً من ضرع الدولة الوليدة، في حين يُحكم السيد سلفا قبضته على القرون. ها هو فنجان الشاي يستبدل للمرة الرابعة، فالسيد سلفا شارد الذهن، وقبلها كان يتوقف عند السطر الأول من تقرير: «المشكلات الداخلية في دولة جنوب السودان»، السطر الأول الذي يحدثه حديث المشفق، فيقول: «مخاطر سوء التقدير وخروج الصراعات المحلية عن السيطرة وتفاقم النزاعات بين المكونات القبلية حول المراعي والمواشي والأراضي التي كلفت الآلاف من الأرواح وشردت الملايين من السكان في ظل تعذر وصول المساعدات الإنسانية للمتأثرين بالحرب، مخاطر تتطلب قرارات شجاعة»، وينظر السيد سلفا للقرارات ليجد أنها بالفعل شجاعة وتقضي ب : تقلص المناصب الوزارية إلى النصف، إبعاد الحكام ذوي الأيادي الملطخة بالدماء، العصف بقادة الجيش الشعبي الذين أذكوا نار الفتنة، لكن: بأي يد يستطيع السيد سلفا أن يدفع بهذه القرارات إلى منضدة مجلس الوزراء؟ ومن تقرير «جورت هيمر» عضو وحدة أبحاث النزاعات التابعة لمعهد كلينجندال، والمتخصص في الأبحاث المتعلقة بالقرن الإفريقي ننقل: «لم تراع هيكلة دولة الجنوب الحالية التصميم الدولي المتعارف عليه، إنها هيكلة تخدم أهدافاً ضيقة متمثلة في تعزيز التسوية بين النخبة الحاكمة والحفاظ على الأجهزة العسكرية للتعامل مع المهددات الخارجية لدولة الجنوب».. وللسائل عن سر التماسك حتى الآن، نأتيه بالخبر: إذ ظلت تُدار الدولة اعتماداً على إعلاء شأن مفهوم العدو المشترك والجار المتربص طمعاً في موارد تحت الأرض، وإعطاء ذلك أسبقية على تحقيق التنمية وتوفير الأمن الداخلي، وبالطبع فقد قللت فكرة العدو المشترك من المطالبة بالتعددية السياسية، خشية أن تُعكر تلك المطالبة صفو الانسجام بين النخب الحاكمة، ويعضد ذلك محافظة الحكومة الحالية على الخطاب السياسي الحماسي للإبقاء على فكرة العدو المشترك «معشعشة في الأذهان» بوصفها وسيلة لتعزيز الشعور بالوحدة بين الجنوبيين. لعنة النفط كانت تجول في خاطر السيد سلفا، والنادل هذه المرة يستبدل فنجان الشاي بكأس رفيع يتزاحم الثلج على فوهته، وزجاجة مُكلفة يضعها هي الأُخرى بجوار الكأس المكتظ بالثلج، والنفط مازال يجول في خاطر السيد الرئيس... وكيف أنه أعمى العيون عن فرص الاستثمار في الزراعة، وتتزاحم التجاعيد في وجه السيد سلفا تبعاً لتزاحم اللقطات، إذ كانت تحدثه لقطة عن قرار وقف الضخ، القرار الذي خيَّب توقعات الجنوبيين في أن يقود النفط لتحسين معاشهم بعد الانفصال.. لقطة ثانية كانت ترسل تطمينات بأن امضوا في خطوات وقف الضخ نحن نُسند ظهوركم، والسيد سلفا ينظر فيجد ظهره مكشوفاً تماماً، ثم يدفع بكلتا يديه نحو الزجاجة المكلفة والكأس المكتظ بالثلج، ويشرب ... ثم يكتب: القرارات ستظل حبيسة الأدراج.. المفاوضات لن تراوح محطتها الحالية.. إرضاءً للساسة. الحرب لن تضع أوزارها.. إرضاءً للعسكر. الدول المانحة على درجة من الواقعية والتعقل.. أنا مطمئن. الدول الداعمة حذرة في التعامل واسع النطاق لبناء أو تثبيت الدولة الوليدة.. أقدر ذلك.