في الوقت الذي يعاني فيه الشعب من قسوة ارتفاع أسعار السلع الأساسية وغيرها، بل أصبح يعاني بصورة أسوأ وأمرّ، في هذا الوقت وأمس الأول، رحل من دنيانا الفانية رجل دولة سابق ارتبط اسمه بالأسعار عام 1986م أي قبل أكثر من ربع قرن من الزمان. إنه الدكتور محمد يوسف أبو حريرة وزير التجارة والتعاون والتموين في أول تشكيلة لحكومة السيد الصادق المهدي المنتخبة في العهد الديمقراطي الثالث و«قبل الأخير»، لكن السيد الصادق يراه الثالث والأخير، فهو لا يعترف بديمقراطية «رابعة» شهدتها البلاد. ولم يكن يقف إلى جانب الشعب في الديمقراطية الثالثة لصالح استقرار الأسعار. كان الراحل دكتور أبو حريرة قد وضع نظرية لاستقرار الأسعار وخفضها قابلة للتطبيق، لكن من جانب رئيس الوزراء الصادق لم تكن قابلة للتنفيذ بسبب ضغوط أصحاب المصالح. توجس السيد الصادق خيفة من الدكتور «أبوحريرة»، فلجأ إلى إجراء تعديلات في تشكيلة حكومته فقام بحلها وجاء بأخرى لم يكن من بين أعضائها الراحل أبوحريرة. قال الصادق المهدي: «إن وزير التجارة أبو حريرة شم رائحة شطة في الهواء فعطس». كانت الجماهير تهتف بأعلى صوت حينما يمر بجانبها الدكتور أبوحريرة قائلة: «التسعيرة يا أبو حريرة التسعيرة يا أبو حريرة». كان أبو حريرة يرد عليها بنظرية اقتصاد الدولة في جزئية مشاركة المنتجين في إنتاج السِّلع الأساسية». لكن «الديمقراطية الفوضوية» سدَّت الطرق أمام تطبيق النظرية. ما قيمة الديمقراطية بدون أسعار منخفضة؟! كان هذا التساؤل هو لسان حال الوزير الأسبق الراحل. إن الصادق المهدي اهتم بالأصوات أكثر من الأسعار. تمر الأيام ورئاسة الجمهورية التي يسطير عليها الإسلاميون أعضاء الجبهة الإسلامية القومية تحتسب وزير التجارة الأسبق أبو حريرة. حينما كان أبو حريرة وزيراً في حكومة الائتلاف عام 1986م وهو قيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل حالياً»، كان الإسلاميون في المعارضة يقود كتلتهم في البرلمان الأستاذ علي عثمان محمد طه. الآن البشير وعلي عثمان ونافع ومصطفى وغازي هم من يحتسبون الراحل. لقد صلىّ عليه زعيم حزبه السيد محمد عثمان الميرغني، لكن مثل الدكتور أبوحريرة «نصير الشعب في الأسعار» لقد وضع بصمة قومية واضحة جداً في تاريخ السودان. لقد كان الرجل يعمل على خفض الأسعار وكان إمام «أنصار» فكرة اقتصاد الدولة في جزئية مشاركة المنتجين في إنتاج السلع الأساسية. كان الراحل محبوباً وسط عضوية حزبه، فبعد أن رحل من الدنيا ليكون من السابقين لنا تحدَّث عن بعض مآثره مدير مكتب هيئة الختمية السيد صلاح الدين سر الختم فقال إن الفقيد كان من المناضلين الذين صانوا العهود والمبادئ ولم يتزحزحوا ودافعوا عن الحرية والديمقراطية والسلام. وأشار سر الختم إلى وفاء الراحل لوطنه وحزبه. ولم يَسْهُ من كلمة «الأصل» أو يتجاوزها، وهي المرتبطة باسم الحزب الذي يقوده الميرغني حيث قال عن الراحل: «كان متمسكاً بحزبه الاتحادي الديمقراطي الأصل».. وهي التسمية التي تميز الحزب عمّن انشقوا عنه. لكن كل الحزب يبقى واحداً تحت مسمّاه الأصيل «حزب الحركة الوطنية الأوّل» الذي جمع الأشقاء بشيوخ وخلفاء الختمية وبغيرهم. فقد فقدَ حزب الحركة الوطنية الأول عضواً بارزاً وضع بصمة قومية في وطنه شهدها عهد الديمقراطية الثالثة.. سواء كان الأخير أو قبل الأخير. فالعبرة بخدمة مصالح الشعب وتحسين مستواه المعيشي، وليس بديمقراطية بأسعار مرتفعة وسلع أساسية معدومة. رحم الله الدكتور أبو حريرة.. وجعل سيرته قدوة لأولي الأمر.