الأدب فن يتفرع إلى فنون فرعية منها الشعر ومنه الشعر الغنائي ولا يُقاس الفن أو قل الشعر بمقاييس محددة «أو مسطرة» وزمان أو مكان. والشعر أنواع منها المدح، والرثاء، الوصف والغناء..إلخ ودوره يعبر عن البيئة الثقافية الاجتماعية «كل إناء بما فيه ينضح» أي صلته بالبيئة، وأستدل بقول أديبنا الشاعر الخالد المحجوب «إن الشعر إحساس بالحياة وعواطف وعبادة للحسن» وقول الشاعر المرهف التيجاني يوسف بشير «إن نوعية الشعر يجب ألا تكون سبباً في رفضه حيث يجب الاستجلاء للاستماع لما وراء ذلك». والشعر السوداني بدأ مسيرته في فترة الغنج، في إشارة للمكون الثقافي العربي «ولايعني هذا أنه لم تكن هناك ثقافة شعرية» ولكننا نشير إلى المولود الشعري بالفصحى أو العامي وبالذات نوعية الشعر الغنائي. ففي فترة الغنج اتسم الشعر بطبيعة الحياة الصوفية روحاً والرعي حياة وتجديداً، بالنسبة للشعر الغنائي، فهو يمثل مشاعر يتنوع فيها الأسلوب، الأداء والتعبير. وكل ألوانه تحمل ألوان الطبيعة المعاشة ويفسر الفلسفة الواقعية، وأكثر ما ارتبط في إطاره الشمولي بالحب وحتى هذا الحب متنوع، فقد يكون الحب مدحاً، أو وصفاً أو رثاء أو تعبيراً عن مشاعر الحب للآخر حياً أو ميتاً والأخير حب الذكريات والمزاملة. تحسن المناخ الفكري في العهد التركي وأُنشئت أول مطبعة في السودان وساهمت في نشر الأدب ونال الشعر نصيبه في إعلان ميلاده كشعر معبِّر عن الحب، كما في غيره من التعبيرات. وحتى هذا الحين لم يكن للشعر الغنائي أثر كبير في الحياة الاجتماعية تحت وطأة الظلم والحياة القاسية إذ إن الشعر ينتعش بانتعاش الحياة ويتأثر بأنماطها المختلفة، وتلاحظون الفترات القاسية والظروف النفسية الغريبة التي أثرت على الإنتاج الشعري كغيره من المنتجات الفكرية وغيرها وما أصابه من ضمور في السودان أو مصر أو غيرها في الإنتاج الثقافي والتأليف الشعري وفي الدولة المهدية لم يكن الحال بالنسبة للشعر الغنائي بأفضل من الفترات السابقة وفي فترة الاستعمار ازدهر الشعر بعامّيه، والغنائي بصفة خاصة وبرز بوجهه المنظوم والمرسل، الفصحى والعامي والثقيل والخفيف. ومنذ هذه الفترة حتى الآن يمكن أن نسميها فترة واحدة ذات محطات عديدة وخلالها مجملاً شهد الشعر الغنائي تجربة عاقلها تجارب أخرى من الشعر الغنائي الجاهلي المعلقات وغيرها من الشعر الخفيف المعبر عنه في شعر عمر بن أبي ربيعة، وأيضاً من التجارب ما كان في شعر بشار وأبي نواس، وأخيراً فترة تجربة نوعية نزار قباني وأمثاله، فكلها تجارب الشعر الغنائي فيها يندرج فيما يقولون عنه إنه هابط، وهنا أبدي رأيي واضحاً إنه ليس هناك شعر هابط بنوعيه الفصيح والعامي سواء في الشعر الغنائي السوداني أو غيره، لأننا إذا أخذنا بهذا التعبير «الهبوط» يشمل الهبوط الذي قاله آخرون غير سودانيين مثل أمرؤ القيس فماذا نقول في بيت شعره: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم يحول وكذلك: هركونة فنق درم مرافقها تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل فهذ هذا شعر هابط وهل وصفه أحداً بأنه هابط؟ بهذا أود أن أقول إنه ليس سليماً أن نسمي الشعر الغنائي العامي السوداني «هابطاً» لأن الشعر يعبر والتعبير لا يمكن أن يُحرم بل يُصنف بالقياس ولا ننكر أن هناك كمًا صغيراً فيه كلمات يمكن أن نسميها غير مقبولة وليست هابطة وحتى هذه النسبة لا نجدها إلا في الأشعار الغنائية بالمدن وليس في الربوع والأرياف والمجتمعات الفطرية. الشعر الغنائي السوداني، الذي يسمونه هابطاً يمثل واقعاً فرضته الظروف الاجتماعية وغيرها ولا يمكن مهاجمته أو محاربة نوعيته، ولا أتفق مع من يقولون إن هناك مشكلة بنظرة إلى حيز صغير في الشعر الغنائي وأعني به الشعر الغنائي النسائي في الأفراح والمناسبات الاجتماعية، فلا يمكن أن تعمم الحكم على هذا النوع على الشعر الشعبي السوداني الذي يشمل الدوبيت وغيره من الفنون الشعرية السودانية الأخرى. والتراث الغنائي الأصيل مستمر ولا تؤثر عليه التجربة الغنائية العامية ولا تشكل مشكلة أو عائقاً في أصالته وتطوره.. وحتى هذا الغناء الذي يسمونه هابطاً مرتبط بالواقع عبر الأزمنة وله مسبباته ومناخه المؤثر فيه في السودان وغيره، وينبغي أن ننظر إليه كما يقول المحجوب «إنه من يصور خلجات النفوس وإفصاح عن أدق الخفايا النفسية» لأنه ارتبط بظواهر مثل السيرة والرقصة للعروس وبالبطان وكل التراثيات مثل الجرتق والطهور... وبذا فهو صورة زيتية وحصاد واقعي مجتمعي يتفاعل مع الحياة ويعتمد على الذوق، والذوق يستمد عناصره من البيئة حوله، وهو أكثر تأثيراً في النفوس من الشعر المنظوم باللغة الفصحى. وما يدعم القول عن طبيعة الغناء السوداني العامي وخاصة المرتبط بالأفراح والمناسبات الاجتماعية صورة الموشحات المشابهة له والتي هي أيضاً ضرب من شعر الغناء المجتمعي المجلسي وما يماثلها من أشعار شكسبير وشارلس دكينز التي يقولون إنها رديفة للموشحات والغناء السوداني الشعبي المتنوع ومنه أغاني المناسبات والذي هو انعكاس للواقع الاجتماعي له أهميته وتذوقه في إثراء المناسبات وأهميته في الواقع الاجتماعي وتذوقه في قبوله وحاجة المجتمع إليه في الترويج للمشكلات التي يعيشها الشباب من الجنسين الذين يبحثون عما يزيل عنهم السلبيات الاجتماعية مثل العطالة، وفي هذا نشير إلى وجود هذا النوع من الغناء في المناسبات وخاصة الزيجية وحضوره في رقصة العروسة والسيرة ونجد كثيراً النظرة إلى هذا الغناء بأنه مكمل للمناسبات الزيجية من وجهة النظرة الاجتماعية لدى أهل العرس. والمضمون لهذا النوع من غناء المناسبات لهم مكانتهم الاجتماعية وسط محيط الغناء العامي ولعب دوراً كبيراً في نشر هذا الغناء إقبال إسماعيل عبدالمعين، إبراهيم الهادي زنقار وحواء الطقطاقة وغيرهم، وسيستمر هذا النوع من الغناء وإن كان نظرة له فينبغي أن تكون في توثيقه وتطويره وحمايته وترشيده وإعطائه مساحة من الاهتمام بدلاً من تسميته ووصفه في خانة الهبوط.