إلى عهد قريب كان المغترب منية للحسناوات السودانيات.. كانت الأغاني (تتطاقش).. تتغزل في صفات العائد الغانم.. محملاً بالشنط الكبيرة.. الهدوم الما خمج.. والأرياح من حسناء المدن.. باريس ورصيفاتها النواعس الأوربيات.. والأغاني تنسال من الأجهزة العتيقة.. عربيتو بارلينا والريحة كورتينا.. عشان بمشي ويجينا.. الناس عملوها فينا.. كان هذا هو الحال في السبعينيات وبداية الثمانينيات.. وإلى عهد قريب.. إلى أن جاء زمان التيه.. والتوطين.. وتكدس العمالة في شواطيء الخليج.. زمان بترول نيفاشا.. وسوق ليبيا.. وسوق المواسير.. والجوكية.. وشيكات الماينص.. والمرابحات.. زمن لم تعد فيه الأشياء هي الأشياء.. تغيرت المعالم.. والملامح.. وأصبح الحرامي النصاب (شفت) و(تفتيحة) وولد حرك.. والموظف الشفيف العفيف.. زول الله.. ودقوس.. وبسيط.. إلى أخرها من رثاءات القيم الجميلة والأخلاق الفاضلة.. انتهى زمان المغترب.. حتى الدولة رفعت قبضة أتاواتها الثقيلة عنه بعد أن حلقت بعيداً بغنائمها من الضرائب والتحويل الالزامي والزكاة ورسوم التلفزيون ودمغة الجريح وما لف لفها من غنائم معركة الاغتراب الكبرى .. وبالمقابل لم تقدم له سوى عروض أراضٍ بعيدات ضاربات في الصي والأقاصي من شاكلة الوادي غير الأخضر.. حيث الخلا.. ولا رفيق فسل.. مساكين هؤلاء المغتربون.. الجامعة التي تحمل اسمهم .. وتقيم الندوات والأمسيات في كل مضارب الأرض ومغترباتها مبشرة بحل مشكلة الدراسة وتيسيرها انضمت هي الأخرى إلى حافلة توهان المغتربين والوعود الخلب من شاكلة مشروع سندس ورفاقه.. حيث الرسوم الباهظة.. والإجبار على المساهمة المالية وإلا فقد ابتك الامتيازات في القبول.. وهذه كلها منغصات وأدت الحلم الكبير والأمل العريض في أن تحل الجامعة مشكلات التعليم العالي لأبناء المغتربين مصدر القلق.. ومعضلة المعاضل. في إجازتي الأخيرة ذهبت برفقة بعض الزملاء المحامين إلى أحد مطاعم شارع المطار الفاخرة.. اللحوم الكاربة.. والسلطات بأنواعها.. والمحاشي.. وما لذ وطاب.. انسللت من بينهم متوجهًا صوب الكاشير.. إلا أن الزملاء رضا.. والصادق قاما بسحبي من يدي بعنف.. يا زول هوي أنت ماشي وين.. خليك خليك.. والله ما تدفع.. أنت زول مغترب ساكت.. وإلى أن يتكلم ذلك المغترب الساكت.. نتلاقى في رحاب تلطيفة أخرى.