هاجم الدكتور الأفندي الخلفاء الراشدين، ووجَّه اتهامه إلى الخليفة الراشد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه، باستخدام العنف غير المبرر ضد مانعي الزكاة، واتهمه بأنه: «لم يقبل رأي واجتهاد مانعي الزكاة كما أنه لم يقبل نصيحة قادة الأمة الذين حذروه من قتالهم». ثم اتجه إلى تأسيس استنتاجه العام، القائل إن دولة الخلافة الراشدة، لم تكن دولة إسلامية، بل دولة تقليدية، تجنح إلى استخدام وسائل العنف. وقال: «هذا الوضع اختلف بصورة جذرية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن هناك شخص يقوم مقامه، ويتمتع بما يتمتع به من كلمة ونفوذ، مما جعل إقامة دولة تقليدية تعتمد على القهر، ضمن وسائلها ضرورة لا مفر منها». وقد كانت تلك خطوة خطرة خطاها الأفندي، باتجاه تأكيد فرضية بحثه الأساسية، التي تفيد أن الدولة الإسلامية لا ضرورة لها وألا حاجة للناس إليها. وما فاته أن يستعين في هذا الصدد، بفكر مارق عن إجماع علماء الأمة الإسلامية، هو المدعو علي عبد الرازق، الذي كان أول من أثار هذه الفرضية في العصر الحديث، في كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم». وقام الأفندي بتلخيص أطروحة الشيخ السابق علي عبد الرازق، في أحد فصول كتابه، وعقب عليها قائلاً إنه قد شابها بعض التشويش الذي أدى إلى: «أن يحرم جهود عبد الرازق وأفكاره من تحقيق المساهمة الإيجابية التي كان من شأن النقاش الجريء حول قضايا الفكر السياسي أن يحققها». فأفكار عبد الرازق التي تفصل الدين عن الدولة وتدعو إلى العلمانية، وتؤصل لها بأدلة «إسلامية!» مغلوطة ومزورة، هي في جملتها صحيحة، في نظر الأفندي، لولا ما ثار عليها من تشويش. وعندما تراجع المدعو علي عبد الرازق عن أطروحته لاحقًا «ولا دليل في الحقيقة لتراجعه عن أطروحته، وإنما جبن فقط عن الاستمرار في التبشير بها» أسف الأفندي لذلك، وقال: «فلا نجد مثلاً في ما أورده من أسباب لموقفه الجديد أية إضافة ذات معنى للفكر السياسي الإسلامي». فالإضافة ذات المعنى للفكر الإسلامي، بنظر الأفندي، هي تلك التي تنفي وجود الدولة في الإسلام، كما فعل صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وكما فعل خالد محمد خالد في كتابه «من هنا نبدأ»، أما إذا حدث تراجع عن هذا النفي المنكر فهو أمر لا نفع فيه! وفي الحقيقة فإن الثابت فقط، هو أن خالدًا هو الذي تراجع عن رأيه القديم، وأصدر في تصويبه كتابه عن «الدولة في الإسلام». وقد أخذ الأفندي على عاتقه مهمة تطوير فكر المارق علي عبد الرازق، وراق له أن يعيد ترديد ما زعمه بشأن الطبيعة العلمانية للدولة الإسلامية، فقال: «إن مفهوم الدولة الإسلامية الذي عمر به الخطاب الإسلامي الحديث لا يحتاج للمراجعة الشاملة فقط، بل ينبغي نبذه تمامًا من مفردات الخطاب السياسي حتى تعود العافية والعقلانية إلى هذا الخطاب. والتعبير البديل الأفضل قد يكون دولة المسلمين، أو الكيان السياسي الإسلامي، أو أي تعبير آخر يعكس حقيقة أن الدولة التي ينبغي للمسلمين أن يسعوا لإقامتها ليست نموذجًا جاهزًا يتنزل من عل وإنما هي ما ينتج عن الإرادة الحرة للأمة وبالتراضي من أفرادها وجماعاتها». ولا يجب أن يدهش القارئ، لدى افتراض الأفندي أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تنتج عن الإرادة الحرة للأمة، ولا يمكن أن تنبثق عن التراضي بين من أفرادها وجماعاتها، فهذه هي المغالطة التي ترددت كثيرًا في كتابه حتى وسمته بميسمها ووصمته بوصمها. فالدولة الإسلامية عنده هي دولة عنف وقمع بالضرورة، حتى تلك التي قامت في عهد أرشد الخلفاء الراشدين، لأنها لم تسمح للمرتدين أن يرتدوا عن الإسلام، ولم تقف مكتوفة اليد إزاء خروجهم عن سلطة الدولة الإسلامية، وحملهم السلاح لتهديد أمن المجتمع الإسلامي! ورئيس الدولة الإسلامية، وإن كان هو أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، فهو عند الأفندي، مستبد برأيه، يسيِّر الجيوش لمصادمة المرتدين، ولا يقبل نصيحة قادة الأمة إذا حذروه من قتالهم! وقد نسي الأفندي، أو تناسى كما يحلو له أن يتناسى ما لا يخدم حجته، أن أبابكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه، قد حاجَّ معارضيه وناصحيه من الصحابة، بحديث نبوي شريف، ما إن سمعوه من فيه الشريف، حتى اقتنعوا بموقفه المنيف. وعندما رفض الأفندي مفهوم الدولة الإسلامية، ولو جرى تطبيقه في عهد الخلافة الراشدة، فإنه قد أعلن قَبوله لأي نموذج آخر للدولة، يختاره المسلمون، ولو لم يتأسس على مفاهيم الإسلام، ولم يلتزم بإلزاماته! فكأنما أصبح المسلمون حكَما على الإسلام، لا محكومين به! وهذا المفهوم هو ذاته مفهوم ابن عربي الهائم للدين، الذي شرحه في أشعاره المتذبذبة حين قال: لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكرُ صاحبي إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه دَانِ فقد صار قلبى قابلاً كلَّ صورةٍ فمَرعىً لغزلانٍ وديْرٌ لرُهبَانِ وبَيتٌ لأوثانٍ وكعْبةُ طَائفٍ وألواحُ تَوراةٍ ومُصحفُ قُرآنِ أَدين بدينِ الحُبِّ أنَّى تَوجَّهتّْ رَكائبُه فالحبُّ دِيني وإيماني! وكما كان الحب مهمًا عند ابن عربي الحاتمي، وشرطًا وحيدًا في صحة دينه، القائم على الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، فإن المهم عند الأفندي، والشرط الوحيد لقيام دولته المثالية، هو أن تسودها مفاهيم الحرية والعدالة والتسامح، وغير ذلك لا يهم. وبالطبع فلا خلاف بين المسلمين على أهمية مفاهيم الحرية والعدالة والتسامح، التي هي من كبريات مفاهيم الإسلام ومن أهم إلزاماته للدولة والأفراد. ولكن يجب أن نلاحظ أن الإسلام لا ينحصر في هذه المفاهيم، التي يلتقي فيها مع بعض صنوف الفكر الوضعي «الإنسانوي»، وإنما يتخطاها إلى آفاق أبعد يرتادها، ويحقق فيها رسالته، حيث إن مهمة الرسالة الإسلامية الأولى أن تعين على تعبيد العباد لرب العباد. وبالتالي فإن من أولى وأكبر غايات الدولة الإسلامية أن تعين مواطنيها على الاتصاف بقيم الإسلام وتعاليمه وإرشاداته. ومنها ما يختلف كثيرًا، ويتعارض تعارضًا جوهريًا، مع بعض دعاوى الفكر الوضعي، العلماني، «الإنسانوي»، الذي يدين به عبد الوهاب الأفندي، ويدعو المسلمين إلى اتباعه، ونبذ ما يخالفه من واجبات الدين الحنيف.