بالطبع لا أحد يستطيع معرفة ماذا سيحدث في اللحظة التالية، وما هو القدر المقدور للإنسان وهو يعيش حياته العادية، وسط النَّاس والأشياء، وقد يصبح المرء في عافية وصحة ثم يمسي وقد مدد مسجّى في قبره، وليس أمراً مستغرباً أن يبقى المرء مريضاً لسنوات عديدة دون أن يتحرك له رمش، أو عضو، لكنه يظل حياً يزوره الأصدقاء ويقوم على خدمته البنون والأحفاد، وكذلك الدنيا، لا ضامن لها، ولا مقياس للعمر فيها بالشباب أو الطفولة أو الشيخوخة، فهي دارُُ متى ما أضحكت في يومها، أبكت غداً، تباً لها من دار، وإنها لحكمة بالغة أن يقول الشاعر فيها:- يا عابد الدنيا الدنية * إنها شرك الردى وقرارة الأكدار دارُُ متى ما أضحكت في يومها * أبكت غداً تباً لها من دار والمناسبة التي دعتنى لكتابة هذه السطور تتعلق بلقاء جمعني والأخ الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، والأخ رئيس اتحاد الطلاب السودانيين، والأخ رئيس الاتحاد الوطني للشباب مع الرئيس الافغاني السابق البروفسور برهان الدين رباني، ونحن قد شاركنا في المؤتمر العالمي للصحوة الإسلامية بمدينة طهران فى نهايات الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر الحالي. كان اللقاء قبل يوم واحدٍ من مصرع المرحوم برهان الدين رباني فى كابل العاصمة، حيث استقبلنا الرجل بجناحه بفندق الاستقلال بطهران، الكائن في الدور الخامس عشر بالجناح الشرقي، وهي المرة الأولى التى أتشرف فيها بمقابلة الرجل، الذى يتمتع بسيرة عطرة، ومواقف شجاعة أثناء فترة الجهاد الافغاني ضد الشيوعية، وكان معه آخرون كلٌّ في قيادة جماعة أو فصيل. ولقد رحب بنا البروف برهان الدين رباني وتناولنا الشاي معه، وحدثنا كثيراً عن الأحوال في وطنه أفغانستان، وكيف أن هناك كرهاً للغزو الأمريكي حتى من قبل حكومة كرزاي نفسها، وأن أئمة المساجد لا يخشون الجنود الأمريكان، ويشنون عليهم حرباً شعواء بالمساجد دون خوف أو وجل. كما حدثنا الرجل عن مساعيه الجادة للمصالحة بين النظام الافغاني وتنظيم طالبان، ومن أعجب الذي ذكره، أن الإستراتيجية الأمريكية تلعب على ضرورة استمرار التفجيرات، وعدم القضاء على تنظيم القاعدة، ذلك وحسب تحليله، أن القاعدة أو تنظيم طالبان، إن انتهى من الوجود، فإن ذلك يعني عدم وجود أي مبررٍ لغزو أفغانستان، وبالتالي يكون الطريق قد قُطع أمام تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية. وحدَّثنا الرجل عن الاختراقات الاستخباراتية الباكستانية لطالبان، وأن العمليات الطالبانية بباكستان أكثر من تلك التي تتم بأفغانستان، وربط لنا الرجل بين المجموعات المتنفذة في الجيش الباكستاني، وخاصة الاستخبارات، مشيراً إلى أن القرار الباكستاني لم يعد في يد الحكومة، وإنما بيد تلك المجموعات. ومما أدهشني أن البروف برهان الدين رباني، يتحدث العربية بطلاقة، ويجيد فن التحليل، وهو متابع لأخبار السودان بشكل دقيق، والدليل على ذلك استفساره عما يدور في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وأحوال الدولة الجديدةبجنوب السودان، ومآلات الأحداث بعد انفصال الجنوب. ولقد قضينا مع الرجل العالم أكثر من نصف ساعة، كانت من أخصب الفترات بالمعلومات عن أفغانستان، والحراك السياسي فيها، وما يخبئه لها المستقبل، والمجهودات التي يبذلها الرجل، وهو يشارك من أجل رسم صورة جديدة تعيد أفغانستان إلى الحظيرة الإسلامية، بتجنيبها ويلات الصراع والغزو، وآثار التدمير، والحفاظ على هُويتها، وثروات شعبها، ولقد ودعنا الرجل، وهو فيما يبدو يعد عدته للعودة لوطنه بينما كنا نحن نرتب للعودة إلى السودان. ويقدر الله أن تقلنا الطائرة إلى الدوحة، ثم الخرطوم، وهو يبارح إلى أفغانستان وفي اللحظات الأولى من وصوله إلى منزله يلاقي ربه ضحية لتفجيرٍ طالما حدّثنا عنه، وما إن وصلنا إلى مطار الخرطوم إلا وأن يبث لنا الخبر الأليم. «سائلين الله للبروف برهان الدين رباني الرحمة والمغفرة وأن يجعله مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً».