الأسواق الشعبية في كل بلد عربي لها عبق خاص وتجتذب السياح ويرتادها زبائن شعبيون استمدت أسماءها منهم تتمثَّل في أريحيتهم وبساطتهم وتصرّفهم على سجيتهم، كل زائر يشتري منها تذكارات خاصة، وأهم مافي هذه الأسواق هو أسعارها التي في متناول يد الجميع، في السودان هي الأكثر ازدحامًا بالزبائن، وأشهرها على الإطلاق هو سوق الجمعة الذي شدّ رحاله في أكثر من مكان قبل أن يضع عصا الترحال في جنوبالخرطوم جوار السوق الشعبي فتتحدّث رائحة التوابل عنه قبل أن تجذبك لتتجوّل بين ردهاتها دون أن تشعر بكلل أو رغبة في مغادرة السوق الذي ينضح بالأصالة، ولعل أكثر ما يميّزه هو شموليته واحتواؤه على أنواع البضائع كافة أسوة بأكبر المولات، ما عدا أن كل بضائعه لا تحمل ديباجة أوربية، بل لون أو طعم يخبرك أنها تأتي من دول الجوار التي تتحدث نفس لغتنا الإفريقية. من أي مدخل جانبي تدخل السوق المزدحم فتصافحك البضائع، كل أنواع الملابس معلقة ومصفوفة بعناية مع دعوات للدخول ورؤية البضائع الملونة حتى الأحذية من البلاستيكية إلى المستوردة بأسعار تتحمّل التنازلات ولو قليلاً.. فجأة تزلقك المنعطفات فتجد نفسك أمام حشد من الأواني المنزلية تعكس أضواء النهار في وجهك فتجذب الزبون لتعطي العين حق النظر، ولا إراديًا تمارس حواء هوايتها المفضلة التسوق فلا تخرج بلا دستة أو نصف دستة.. من هناك حدثنا تاجر أواني في السوق عن تأثير الدولار على بضاعتهم التي يشترونها من سوق أم درمان ويستفيدون من هامش الربح فيها قائلاً: (زمان في المواسم نبيع بألف جنيه في اليوم والآن استفتاحة ماف)!. وانعطفنا نحو دكان توابل تسوّقنا من توابله ذات الرائحة النفاذة قبل أن نسأله عن بضاعته فحدثنا مالكه (خالد يوسف) عن رحلته في سوق الجمعة التي وصلت ل (8) سنوات كان لديه دكان توابل فشاءت الأقدار أن يفقده في الحريق الذي نكب به السوق قبل سنوات ليتحوّل لتجارة الأواني قبل أن يعاوده الحنين إلى توابله فيعود إليها وعن تأثير الوضع الاقتصادي على السوق قال: نحن نرفع أسعارنا مع السوق؛ لأن بضاعتنا نستورد بعضها من دول الجوار مثل التبلدي الذي نستورده من نيجيريا بسعر 650 للجوال لأن تبلدي كردفان لا يكفي حاجتنا والقرفة من الإمارات والغرنجال والجنزبيل من نيجيريا وتشاد والكمون من سوريا وحتى تحتفظ التوابل ببريقها وتبقى طازجة أصحاب المال يؤجرون ثلاجة لتخزين التوابل والقونقليز وحتى الويكة تخزن بطريقة دبلوماسية وعندما يخرجها في (قصير) لتغطية احتياجات رمضان تكون طازجة فيزيد سعر الثلاجة على سعر السوق ومن ثم ترتفع الأسعار في رمضان! والزبائن يشترون يوميًا توابل ولنا زبائن من بحري يأتون إلينا. وفي جولتنا بين ردهات التوابل التقينا نائب رئيس اللجنة الشعبية أحمد بشير جوار دكان التوابل الخاص به وهو يعتبر من مؤسسي السوق أمضى في سوق الجمعة (24) عامًا حدثنا عن نشأة السوق التي كانت في عام 1979م في زنك الخرطوم بالسوق العربي الناحية الشمالية للجامع الكبير وكان كل جمعة فقط ثم انتقل إلى ميدان المولد في السجانة ومنها إلى مجمع إبراهيم مالك الناحية الشمالية 1983م ثم انتقل إلى امتداد الدرجة لمدة شهر فقط 1989م ومنها إلى هذا المكان الحالي 1989م بتصديق من نائب المعتمد يوسف عبد الفتاح، ومن أشهر مؤسسي السوق عبد الفتاح مضوي وعبد المولى عبيدي والتجاني البسط، وأكد أحمد الذي دخل السوق مع أخيه الذي تحول لتجارة المواشي وترك له السوق أمانة أنهم يوقعون إيصالات ولديهم رخص أيضًا حيث يضم السوق 816 دكانًا يعمل داخلها 2400 تاجر يعولون 230 ألف أسرة بهم 5 أسر شهداء تصلهم إيرادات محلاتهم ولكن بدأت أحداث أثرت في السوق بعد الحريق الذي شب عام 2008م قضى على 243 دكانًا وأغلق السوق ل 3 أسابيع فرفعت المحلية يدها عن مساندة السوق وتفاجأ العاملون بقرار إزالة السوق في إحدى الصحف من موقعه إلى منطقة الأندلس في مايو، ورفض التجار هذا القرار وقدموا طعنًا في القرار الذي باشروا في تنفيذه بهدم السور الشرقي إلا أن المحكمة الدستورية أوقفته وما زالت القضية هناك. ويأسف أحمد على حال السوق الذي أصابه حاليًا الركود وتضرر من قرار الإزالة الذي بسببه رفض التجار منحهم بضاعة ولكن عرض السلع الجيدة يميزهم عن غيرهم. غادرنا التوابل إلى ركن مثير به كافة التوابل التي تأتي من الجارة إثيوبيا التي لديها جالية لا يستهان بها في السودان فتجد بهار الزغني وويكة الحبش المطحونة والدقيق حتى الأواني المنزلية أهمها حلَّة الفخار التي تنافس حلَّة الضغط في الطبخ المميَّز ولا يتجاوز سعرها «80» جنيهًا وعليها طلب عالٍ جدًا. وقبل أن نودع السوق توقفنا مع بائعات الطعام في السوق حيث يعتبرنه منزلاً آمنًا منذ 25 سنة كما أخبرتنا حاجة عوضية التي علمت أولادها من بيع الأطعمة في سوق الجمعة إلا أنها تذمرت لنا من الغلاء الذي اضطرها إلى زيادة سعر بضاعتها من 2 جنيه إلى 5 جنيهات للطلب فأصبحت لا تبيع كما الأول بل إن طعام الفطور يصافح الغداء دون وجيع!. عندما تنتهي الجولة في سوق الجمعة تعلم جيدًا أنك ستعاود الكرة؛ لأن حقيبة اليد أفرغت محتوياتها وما زالت العين تنظر للكثير.