لاحت بشريات النصر وتحرير القوات المسلحة لمدينة أبو كرشولا قبل أن يكمل القادة الأفارقة المحتشدون في أديس أبابا مغادرتهم إثيوبيا التي احتضنت أحداث قمة الاتحاد الإفريقي الدورة ال «21» واحتفالات قارة إفريقيا بالذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي كانت في الفترة بين «22 28 مايو 2013م»، فقد جاء النصر ودلالاته كأنه انتعاش للذاكرة الإفريقية التي يرى البعض أن عقلها قد ظل قاصراً عن إدراك عمق التأثير ومساهمات السودان في تحرير إفريقيا وتضامنه السياسي ودعمه المادي لكل دول القارة في مناهضة الاستعمار الذي بدأ يطل من جديد عبر مخالب التمردات ومحاولات توظيف التنوع الثقافي والاجتماعي في اتجاهات الحروب والنزاعات السالبة.. لقد أهدت القوات المسلحة قائدها العام رئيس الجمهورية المشير عمر البشير لحظة هبوط طائرته قادماً من إثيوبيا، وسبق أن كتبت في هذه الزاوية مشيداً بدور وبسالة القوات المسلحة ممثلة في رمزية قادة متحرك المنتصر بالله «2» العميد عادل علي الكناني والعميد بحر أحمد بحر الذي يرقد مستشفياً من إصابته بالسلاح الطبي، نسأل الله له الشفاء العاجل ولكل الجرحى وأن يقبل الشهداء في عليين. هكذا عودتنا قوات الشعب المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى مهما اشتدت عليهم تكاليف الحرب وتطاول أمد المقاومة زادتهم قوة نسبة لرسوخ التجربة العسكرية السودانية، والشاهد يجد أن كثيراً من الأنظمة العسكرية في إفريقيا قد انهارت تحت ضربات التمرد إلا قواتنا المسلحة السودانية ظلت صامدة على مدى خمسين عاماً ولم تلن لها عزيمة!! نعود للقمة الإفريقية ال «12» حيث احتشد قادة «54» دولة ما عدا بعض الاعتذارات ولسان حالهم يردد مقاطع الشاعر الدكتور محمد عبد الحي.. أنا من إفريقيا.. صحرائها الكبرى وخط الإستواء.. شحنتني بالحرارات الشموس.. وشوتني كالقرابين على نار المجوس لفحتني فأنا منها كعود الأبنوسي!! ومنذ الوهلة الأولى وأنا أدخل المبنى الرئيس للاتحاد الإفريقي حيث (القمة) ومشهد القادة الأفارقة يتجهون نحو مقر المؤتمر لتبدأ الجلسة الأولى التي مقرر لها وفق جدول تنظيم الأعمال أن تبدأ العاشرة صباحاً لكنها بدأت بعد الحادية عشرة، فقد أحسست أن الصورة نمطية لكنها لا تخلو من ملامح تغيير، أولى ملامح التغيير هو ضعف وجود الممثلين للمنظمات الدولية والبعثات وهو كان ملمحاً لافتاً ويمثل مظهراً يشير إلى أن إفريقيا في طريقها للانعتاق أو على الأقل استكمال عملية الانعتاق وإن كان بدرجة محدودة ومحسوبة، فقد ظهر الأمين العام لمجلس الأحزاب السياسية الإفريقية الدكتور نافع علي نافع وهو يمثل التركيبة السياسية الإفريقية الجديدة وجسر الانتقال الجديد لمرحلة ما بعد دعم حركات التحرير الإفريقي التي لم يقتصر دعم السودان لها في دعم الثورتين الأريترية والتشادية، بل سبقه في إسناد حركات مقاومة الاستعمار في أنجولا وموزمبيق وروديسيا وجنوب إفريقيا ضد نظام التفرقة العنصرية، كما كان دور السودان بارزاً في وسط القارة حيث مساندة الكنغو وكينيا بجانب نيجيريا في غرب القارة ومصر والجزائر في الشمال الإفريقي!! فلا عجب أن يأتي تحرير أبو كرشولا عقب ختام القمة الإفريقية وقد كانت كل الأنظار والوسائط الإعلامية والمراقبين يسألون عن الأوضاع في أبو كرشولا بل حدثت إدانة من قبل القادة الأفارقة، ومعلوم دعم الجهات المعادية للسودان للمتمردين في إطار خطة كسر إرادة السودان وإخضاعه من جديد للاستعمار الذي ثار السودانيين في وجهه يوماً، وكانت أيادي السودانيين سخية في دعم إفريقيا ضد محاولات الاستعمار، والسودان أظهر بسالة في ذلك ولذلك جاء التصدي للمؤامرة في أبو كرشولا!! القمة الرئاسية التي جمعت رئيس الجمهورية المشير عمر البشير ورئيس دولة الجنوب سلفا كير لم تكن بعيدة عن دخان المعركة ودعم الجنوب الظاهر للتمرد، وكان السودان يحمل الأدلة الدامغة، وكان وفد الجنوب يتلجلج، وشهدت كيف كان وزير خارجية الجنوب دينق ألور يهرول ما بين جناح إقامة «البشير» بفندق شيراتون أديس أبابا ومقر «سلفا كير»، فقد جاء المرة الأولى ووجد «البشير» يؤدي الصلاة ثم عاد وسألناه عن القمة فقال «قائمة» وأنا ذاهب لإحضار «سلفا كير» فحضر سلفا كير إلى القاعة وبقي منتظراً مدة تجاوزت ربع ساعة من الزمان حتى جاء وزير الخارجية علي أحمد كرتي ومساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع ثم جاء الرئيس البشير، وكان بائناً إصرار الجنوب على اللقاء وهو يبحث عن سبيل ليجد كفايته من نفطه المجمد لإنعاش اقتصاده الكاسد. وواضح أن جنوب السودان به مجموعات ضغط متجافية جداً في موضوع التعامل مع السودان، وقد ظهر ذلك في نصف الساعة الأولى للحوار الذي انقسم فيه الوفد الجنوبي إلى صقور وحمائم، حيث ظهر سلفا كير على رأس تيار الحمائم المهادن، لكن قبل انقضاء نصف الساعة الأولى في اللقاء الذي استمر زهاء الساعتين انضم فريق الصقور الذي على رأسه نيال دينق الذي يراقب بحذر، يجد أن الجنوب شهد تحولات كبيرة في المفاهيم ربما يطيح بتيار الخصومة، ويرمي به إلى مزبلة التاريخ خاصة بعد تراجع الإدارة الأمريكية ومغازلتها الأخيرة للخرطوم، كما أن لقاء وزير الخارجية علي كرتي مع نظيره الأمريكي جون كيري على هامش القمة قد حمل أكثر من دلالة ومؤشر، فضلاً على أن قرصة الأذن الكبرى قد تلقاها (سلفا كير) من الرئيس المصري (محمد مرسي) الذي كان أكثر وضوحاً معه، فقد بعث له رسائل تحذيرية جعلت (سلفا كير) يفتح عينيه للمستقبل إذا أراد كسب مواقف الدول الإفريقية والعربية والإسلامية الكبرى في إطار مصالح دولة وشعب الجنوب، (مرسي) قالها بالواضح خسارة دولة الجنوب في معاداة السودان ودعم الحركات السالبة، أما مصلحة شعب وحكومة جنوب السودان في التطبيع والعمل السلمي مع الخرطوم، وأن القاهرة سوف تتحرك في مساحة متساوية بشرط أن تعمل جوبا وفق مصالح وخيارات القارة الإفريقية!!