«كان بإمكاني قتل كل اليهود ولكني تركت بعضاً منهم لتعرفوا لماذا كنت أقتلهم» تنسب العبارة لهتلر الذي تنسب إليه كثير من أكذوبات اضطهاد اليهود وأهمها المحرقة التي شكك كثيرون في أنها حدثت، وإن كان الرجل قد انتبه في وقت مبكر إلى خطط إسرائيل للانتشار في العالم والتحكم في مفاصله الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية، وهذا ما حدث في العالم الآن. فإسرائيل التي استولت على فلسطين ومارست ضدها أقسى أنواع الظلم باعتبارها أرض الميعاد بعد أن كانوا منتشرين كفئات مضطهدة حتى في العالم الغربي، اشتهرت بالبخل والمكر، جمعت ثروات لا يستهان بها وكرست لوجودها كفئات فاعلة وأسست دولة باغتصاب أرض عربية وما زالت تكيل للعالم العربي كل أنواع الخراب التكنلوجي والفكري وغيرهما، مما يجعل عبارة التطبيع مع إسرائيل تثير زوابع في أي بلد عربي حتى تلك البلدان التي لا تتشدد في الإسلام ولها استلاب ثقافي مثل المغرب، تسير مظاهرات مناهضة للتطبيع مع إسرائيل، وقوبلت في الأردن بموجة سخط جماهيرية، وفي مصر تثير شجوناً وغضباً مما يجعل العبارة مرفوضة جملة وتفصيلاً في السودان الذي له علاقات أكثر من واضحة مع حماس، ولعل أكبر دليل هو زيارة خالد مشعل ومشاركته في المؤتمر العام الثامن للحركة الإسلامية الذي اعتلى فيه النائب الأول لرئيس الجمهورية على عثمان المنصة مطلقاً حماسة أبكت الحضور وهو يقول لا للتطبيع مع إسرائيل وسنحرر فلسطين في حسم لجدلية التطبيع مع إسرائيل، ولكن يبدو أن العبارة التي لا تفتأ تطفو على السطح ترفض الذوبان وتتجدد عبر لون سياسي في كل مرة يسبب صدمة ولغطاً كبيرين. اعتبار إسرائيل حضناً دافئاً وملاذاً آمناً كانت صفة رديفة للحركات المسلحة التي هي عبارة عن منتجات أمريكية وإسرائيلية تحظى بدعم مادي وأمني نظير مواقف بعينها كما حدث مع حركات الشرق والحركة الشعبية وحركة كوش الشمالية «النوبة» وحركات دارفور وأهمها حركة عبدالواحد التي تمرغت مع إسرائيل بصورة جعلت كبار المنطقة يتبرأون منه بسبب عقده زيجات لمنسوبيه بواسطة رجل دين يهودي ويفتح مكتباً في إسرائيل ويفتخر بعلمها في مكتبه، والآن الجبهة الثورية جزء من هذا الزخم، ولكن أن تأتي هذه المقولة من داخل حزب عقائدي إسلامي راسخ مثل الاتحادي الأصل فهذا يؤكد أن منافذ تسريب هذه العبارة حتى تصبح غير صادمة أصبحت متنوعة جداً، إذ أصبح تكرارها يخصم من رصيدها بواسطة الحركات المتمردة، فأصبح الوجه الآخر هو الحديث الصادم من حيث لا يتوقع السامع كما حدث مع القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل» علي نايل، الذي أوردت الأخبار أنه وجه انتقادات مبطّنة للسياسة الخارجية للحكومة، وقال نايل: «ليس من الحكمة والمصلحة أن يعادي السودان كلّ الدول»، مشيراً إلى أهمية الالتفات إلى المصالح القومية للشعب السوداني، حتى وإن كان ذلك في التطبيع مع إسرائيل وأمريكا، لافتاً النظر إلى وجود علاقات واتفاقيات بين مصر ودول الخليج العربي مع تل أبيب، مشدّداً على ضرورة الفصل بين تحسين العلاقة مع دولة الجنوب وموقف الخرطوم من إسرائيل. وتساءل: «لماذا نخلق العداءات مع الدول؟»، مؤكّداً حاجة السودان لعلاقات متميزّة مع المحيطين الإقليمي والدولي، وطالب نايل الحكومة بإسكات الأصوات التي تدعو لعودة الحرب بين الشمال والجنوب، وإفساح المجال للحوار والتفاوض، وزاد، أنهم يدعمون الحوار والتفاوض ويرفضون بشدّة عودة الحرب! بالتأكيد لن يمر مثل هذا التصريح مرور الكرام لان نفسية الشعب السوداني ترفض ذلك، ناهيك عن رأي حكومته الواضح حول التطبيع مع إسرائيل، ونفس هذا الحديث كان بداية النهاية لوالي القضارف المثير للجدل كرم الله الذي كان قد أطلق النار في كل الاتجاهات في حديث صارخ تحدث فيه عن التطبيع مع إسرائيل خلال خطابه الذي ألقاه في فاتحة أعمال المجلس التشريعي لدورته الخامسة وصب جام غضبه على الصحافة والمركز، فيما وعد بتطبيع علاقات السودان مع إسرائيل حال تسلمه حقيبة وزارة الخارجية، واستدرك الوالي بقوله: «ولكن هل يصبح المزارع وزيراً للخارجية»، مشيراً لعلاقات بعض الدول مع إسرائيل مثل مصر والأردن وقطر وقال: «أنا من مدرسة داخل المؤتمر الوطني توافق على التطبيع مع إسرائيل»! ولم يف كرم الله بوعده قطعاً لأنه غادر منصبه بعد فترة وجيزة من هذا التصريح الذي عادة يحول رصيد صاحبه إلى صفر كبير، لأن أي شخص يمسح الساحة السياسية بنظرة سيجد أن حل المشكلات السودانية لن يكون بالتطبيع مع إسرائيل، بل سيجعله يفقد الكثير من مصداقيته في العالم العربي، هي سياسة قد تكون أمريكية بلي الذراع السودانية، ولكنها قطعاً لن تكون مطلباً جماهيرياً أو حلاً سحرياً لأن الطرق الملتوية التي تتبعها الجهات المستفيدة هي التي تجعل هذا الحديث يثار. وتأريخياً السودان وإسرائيل علاقاتهما مهزوزة وشائعات حول ترحيل نميري ليهود الفلاشا عبر السودان، لكن هذا لا ينفي عجزها أمام تطبيع علاقاتها مع السودان. وفي تحليل لبروفيسور حسن مكي عن التطبيع مع إسرائيل كان قد صرح به سابقاً يقول: «السودان الآن محور في الأجندة الإسرائيلية وبينه وإسرائيل مياه مشتركة ولو أنها لا تتعدى «6» كيلو مترات أو ثلاثة ونصف كيلو متر فقط على البحر الأحمر، لكنها الآن هي سيدة الموانئ في البحر الأحمر وبورتسودان من أقرب الموانئ إلى ميناء إيلات وخط أنابيب بشائر للبترول السوداني أيضاً أقرب لميناء إيلات، والسودان مهم بالنسبة لإسرائيل لأنه جنوب مصر أولاً ولأنه مفتاح للسوق الإفريقية لأن البضائع الإسرائيلية لا تستطيع المنافسة في هونغ كونغ ولا في الصين ولا تستطيع أن تنافس النمور الآسيوية، والبضائع الإسرائيلية يمكنها الدخول لإفريقيا عبر البحر الأحمر. وإلى السوق السوداني وتشاد والنيجر ومالي، ورغم هذا لن تستطيع إسرائيل أن تنال «الخام» من السودان ولا البترول السوداني إلا إذا كسبت السودان أو إذا حدث تطبيع سياسي، وإسرائيل «تتعجب» إذا كانت الدول صاحبة «الجلد والرأس» كمصر ودول شمال إفريقيا ودول الخليج تطبع مع إسرائيل، فما بال السودان يرفض التطبيع وكأنه في حالة تحالف مع حماس، فإذا تحالف السودان مع حماس فليس لدى إسرائيل سوى التحالف مع المعارضة السودانية سواء أكانت معارضة عرقية أو اقتصادية أو اجتماعية، فلذلك يجب أن نفهم أن ما يحيط بالسودان جزء منه يتمثل في الدور الصهيوني الذي يعمل بالتجمعات والصناعات العسكرية والصناعة الاقتصادية والصناعة السياسية في الكونغرس والحكم الأمريكي والاتحاد الأوربي وفي الإعلام والجامعات، ولا شك أن إسرائيل تحيط بالسودان. وإسرائيل لا يهمها جنوب السودان بل الخرطوم بعينها ولكن طالما أن الخرطوم استعصت أمر التطبيع فلا بد من أن تعاقب ويتفتت السودان لأن إسرائيل لا تريد أن يكون أمامها سودان قوى، كالعراق ومصر والسعودية. فدولة العراق فتت على أساس جهوي وطائفي كردي وشيعي وسني وتركماني. ملف التطبيع شائك وسيظل طالما ظلت هذه العلاقات الإستراتيجية قائمة، ولكن في يد من المفتاح الذي تبحث عنه إسرائيل. هذا السؤال هي نفسها لم تجد له إجابه بعد كما يبدو، لأن الألسن التي تتحدث بنغمة التطبيع ما زالت تعزف نشازاً لا يطرب سامر الحي.