المثل العربي يقول «يُؤتَى الرجلُ من حيث مأمنه» هذا يحدث كثيراً وليس دائماً، لأن الأمثال ما ضُربت إلاّ من منطلق تجارب جادة وعصارة خبرات متراكمة. أيام نيفاشا «الملعونة» كنا نقاتل وندافع عن ممسكات الهُوية السودانية الحضارية والثقافية التي يمثلها عنصران أساسيان، هما الدّين الإسلامي واللغة العربية لغة القرآن والتنزيل والوحي، ومن المعارك الضارية التي خضناها نحن في منبر السلام العادل وصحيفة الإنتباهة ما يتعلق بالمناهج الدراسية وأصول هذه المناهج وأساليبها، حيث قدنا حملة شعواء لا هوادة فيها ولا مجاملة حينما أقدم أقليم جنوب السودان دولة جنوب السودان حالياً قُبيل الانفصال بمنع تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية لأبناء الجنوب بالرغم من أنهم في ذلك الوقت كانوا لا يزالون أبناء السودان وقتها رفضنا هذا القرار بشدة، وأكدنا أن وزارة التربية والتعليم العام هي المعنية بوضع المناهج ومتابعة تنزيلها والتحقق من فاعليتها ومعاقبة كل من يعتدي على نظام المناهج الدراسية في الدولة.. لكن الخبر الذي جاء في أكثر من صحيفة وهو يتحدث أن وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم سوف تطرح قانوناً تأمل أن يُجاز قريباً يلزم المدارس الأجنبية في بلادنا بتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية والجغرافيا والتاريخ مثَّل صدمة قاتلة لنا ونحن نقرأ هذا الخبر، حيث أدركنا أننا أُتينا من حيث مأمننا، حيث أثبت هذا الخبر أن المدارس الأجنبية التي أنتشرت في بلادنا انتشار النار في الهشيم إذا أُشعلت فيه، حتى صارت ظاهرة سيئة تهدد قيم الأمة وتقاليدها الراسخة هذه المدارس لم تكن تقوم بتدريس المواد الأربع سالفة الذكر، وهذا يعني أن هناك عشرات المئات من الطلاب قد تخرجوا في هذه المدارس، بل عشرات الآلاف وهم قد سُلخوا وغُرِّبوا وأُبعدوا وأُعجموا وعُزلوا عن معين حضارتهم وثقافتهم.. لا بل كبّر ثلاثاً حسرة وقل عن دينهم وقرآنهم وسنة رسولهم الذي بُعث إليهم وإلى أبائهم وأجدادهم. لقد جاء القرآن في أول آياته مخاطباً الرسول بقوله «اقرأ» في دلالة واضحة إلى أهمية التحصين الفكري والثقافي قبل كل شيء، ثم خاطبه بقوله تعالى «لسانُ الذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين»، أثبت الله الإبانة في اللسان العربي.. والإبانة والفصاحة والبلاغة وقوة الخطاب، أبرز أدوات الهيمنة والاقناع تُحدث أثراً هائلاً تتناقله القرون، وخاطبه بقوله «إن الدين عند الله الإسلام» لا دين صالح للبشرية سواه ولا هدى في غيره إلاّ إياه.. إن التربية الإسلامية واللغة العربية ودراستهما واجبة شرعاً من الدين، أما الإسلام فدراسته محسومة، وأما اللغة العربية فلا يفهم الإسلام إلاّ بها ما لا يتم الواجبُ إلاّ به فهو واجبٌ. والله لقد عملنا في التدريس عشرات السنين في مدارس حكومية وخاصة كلها وطنية ولكن «أنا» شخصياً لم أكن اتصور ولا أظن أن المدارس الأجنبية التي كانت تجاورنا أحياناً لا تلتزم بتدريس تلك المواد، وأن وزارة التربية والتعليم تدري بذلك!! إن هذه جريمة كبرى نطالب بإجراء تحقيق رسمي فيها، من الذي يصدق بإقامة هذه المدارس؟ ومن الذي يراقبها ويتابع عملية إلتزامها بأسس الوزارة؟ وما هي مبررات انتشارها وتوسعها الذي أحدث آثاراً سالبة في أوساط الأسر؟ حيث صار بعض الواهمين الغفلة يفتخرون أن أبناءهم يتلقون دراستهم في هذه المدارس الأجنبية التي هي في الواقع وكر خبيث للمسخ والتشويه والتغريب وإهانة الدِّين باسم التعليم والتقدم! هل نسيتم قصة المعلمة الأجنبية «الإنجليزية» في مدرسة الاتحاد؟ كم من هذه المدارس تمارس هذا التدمير والخراب من الداخل وهي تحت حماية وزارة التربية والتعليم التي حتى الآن سكتت، وقامت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم بفتح «الغار المظلم» الذي ظل يبتلع أبناء الأمة والسودان. إن تدريس المناهج الأجنبية لأبناء الأمة قبل اتقان مناهجهم الإسلامية والوطنية وما تسببه من عزل وتغريب لهؤلاء الناشئة لا يقل فتكاً عن السيف والحسام الصارم إذا سلط على رقبة مؤمنة، فإنه قتل للناس جميعاً. والله «لا يوجد شعب في العالم لا يعتز بلغته أو يتعصب لها، إذ أن كل الشعوب تدرك حقيقة أن لغتها مرآة حياتها». كتبتُ مقالاً بتاريخ الخميس 16رمضان 1434ه الموافق 25 يوليو 2013 بعنوان «الإدراك» قلت فيه «الإدراك أن يدرك الشعب أن عقيدته.. وأن هويته.. وأن أمنه القومي خط أحمر دونه المهج والأرواح، وقلت أهم شيء في الإدراك «أن ندرك أننا ندرك»، وتناولت في المقال قضية المناهج وطرائق التدريس، والأهداف العامة والخاصة من تدريس المادة الدراسية، وأخذت اللغة العربية مثالاً، وقلت من أهداف تدريسها الآتي: 1/ أن يدرك الدارس أنها لغة القرآن ولغة دينه. 2/ أن يدرك الدارس أنها لغة أدبه وتراثه وتاريخه. 3/ أن يدرك الدارس أنها لغة أبائه وأجداده ولغة ثقافته. 4/ أن يدرك الدارس أنها لغة العلم والمعرفة ولا يتم فهم الإسلام إلا بها. 5/ أن يدرك الدارس أن لها خصائص تميزت بها على سائر لغات العالم والبشر. وخصائص أخرى ذكرتها في ذلك المقال ونكتفي هنا بالتي ذكرت مثالاً. إذن حين لا تلتزم المدارس الأجنبية بتدريس الإسلام واللغة العربية ماذا يعني هذا؟ أليس هذا احتلال جديد من باب التعليم وهو أشدّ علينا من احتلال الأرض ونهب الموارد؟ إن دراسة الجغرافيا والتاريخ واللغة العربية والتربية الإسلامية من قواعد بناء التربية في إطار الملة الواحدة، وبناء التربية الوطنية، ألا يكفينا عاراً أن أحد كبار المساعدين في القصر الجمهوري في بلادنا لا يفرق بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، وهنا تحضرني المقولة التي تقول «الذي لا يعرف جغرافيا نائم نوم العافية سألوه عن كوستي قال في آسيا». إن واجب وسائل الإعلام تأكيد هُوية الأمة من خلال الدفاع عن اللغة الفصحى واستخدامها لغة كتابة وتحدث، وإن من واجبات الأسرة تجنب تداول اللغة العامية التي تغرس في نفوس الأطفال الضعف وتشيع فيهم اللحن والعجز عن التعبير. وإن من واجبات الرباعي: المدرسة والمعلم والمنهج والطالب تجنب الأخطاء النحوية واللغوية والصرفية والإملائية، والاهتمام بمهارات الكلام والتحدث والاستماع الجيد والقراءة والكتابة والتعبير. في عام 1994م أصدرت فرنسا قانوناً عرف بقانون «لزوم الفرنسية» لحماية لغتها من محاولة اختراق مفردات اللغة الانجليزية، وجاء الرد الفرنسي الرسمي حاسماً بتوقيع غرامة مالية قدرها ألفي دولار على كل فرنسي أو مقيم بالأراضي الفرنسية يستخدم لغة غير اللغة الوطنية في الوثائق والمستندات والمكاتبات بين الشركات العامة في الأراضي الفرنسية والأشرطة الدعائية والإعلانات المسموعة والمرئية، وواجهات المحلات التجارية.. السؤال لماذا فعلت فرنسا هذا؟ سؤال آخر هل تدرك حكومتنا ووزارة التربية والتعليم هذا التوجه؟ على أي حال، نشكر وزارة التربية والتعليم الولائية التي نهضت بهذه الفكرة وإن جاءت بعد الطآمّة ولكن خير من ألاّ تأتي. نتوجه بهذا المقال إلى رئاسة الجمهورية ووزارة التربية والتعليم العام ووزارة التعليم العالي ومجمع اللغة العربية ومجمع الفقه الإسلامي والأكاديميين وواضعي المناهج وإلى هيئة علماء السودان وأئمة المساجد والأسر والمعلمين والتخطيط الإستراتيجي في البلد ونأمل أن نرى حسماً حاسماً في قضية المدارس الأجنبية. ٭ صرخة داوية: الدروشاب تحولت إلى بحيرة وبركة ضخمة هُدمت منازلها وأسوارها وتعطلت الحركة فيها حتى إلى المساجد والأسواق والمدارس والمشافي.. هي منطقة منكوبة بفعل السيول الجارفة وهي بحاجة إلى نفير عاجل من الولاية.