إن قطاعات واسعة من الشعب تحس بأن المسيرة بحاجة لتصحيح شامل وعاجل بلا إبطاء أو تأخير، لإحساسها بأن جل الأوضاع ليست على ما يرام. وعلى سبيل المثال فإن القطاعات الزراعية والصناعية في حالة ضعف وتدهور وتقهقر للخلف، والقطاع الاقتصادي المرتبط ارتباطاً عضوياً بتلك القطاعات وغيرها يحتاج لثورة تصحيحية جذرية، والأوضاع في ظل هذا النظام تختلف جذرياً عن الأوضاع في كل العهود التي سبقته منذ الحكومة الوطنية الأولى التي كونت في مطلع عام 1954م قبل إعلان الاستقلال، وهي «عهد الديمقراطية الأولى وعهد نوفمبر وعهد الديمقرطية الثانية وعهد مايو وعهد الديمقراطية الثالثة» وتخللت هذه العهود حكومتان انتقاليتان أعقبتا ثورة أكتوبر عام 1964م، وانتفاضة رجب أبريل عام 1985م، وبلغ عمر تلك النظم مجتمعة خمسة وثلاثين عاماً، وكان هناك تمييز بين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، والحكومة التي تعمل وفق سياساتها الموضوعة، وذهابها لا يعني ذهاب الدولة، ولكن هذا العهد الذي بلغ عمره حتى الآن أربعة وعشرين عاماً وخمسة أشهر وأربعة أيام حدث فيه اندماج وتماهٍ بين الحاءات الثلاثة «حكومة وحزب حاكم وحركة إسلامية»، وفي إطار سياسة التمكين والسيطرة التامة على أجهزة الدولة مع السيطرة على الموارد المالية والنفوذ الاقتصادي والتجاري داخل وخارج الأطر الرسمية، فإن سقوط النظام يعني أن تترنح الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها وتكون آيلة للسقوط، ولا يستطيع أي بديل ضعيف أن يفعل شيئاً غير أن يكثر من الحديث غير المثمر، ويترنح الحكم البديل ويسقط بسرعة وتعم الفوضى والانفلات الأمني و «تبرطع» القوى الأجنبية التي تسعى جاهدة لتفتيت السودان لعدة دويلات ضعيفة متناحرة، ليتسنى لها نهب خيراته وموارده وكنوزه، ولذلك فإن إسقاط النظام ليس هو الحل، ولكن الحل يكمن في إصلاح إعوجاج المسيرة وتوسيع مواعين المشاركة الحقيقية لا المشاركة الصورية والديكورية، و «العافية درجات»، وإذا بقي النظام بلا إصلاحات جذرية فإن هذه معضلة، ولكن إسقاطه يؤدي لأم المعضلات بسقوط الدولة السودانية وذهاب ريحها، والمؤسف أن القبضة الفولاذية لبعض ركائز النظام ومراكز ضغطه وإصرارها على استمرار المسيرة بحالها الراهن يجعل المناداة بإصلاح النظام إصلاحاً حقيقياً أشبه بالحلم اليوتوبي، ولكن لا بد من المرونة وإعلاء العام على الخاص والموضوعي على الذاتي «وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول». إن الصراع الحاد بين الحكومة والمعارضة ليس من أجل مصالح البلاد العليا ولا من أجل الحفاظ على أمنها القومي، والمعارضة تسعى بشتى السبل لإسقاط النظام برعاية ودعم مالي ولوجستي من القوى الأجنبية المعادية للسودان التي تم تحت إشرافها وتمويلها تكوين الجبهة الثورية وقوامها المتمردون الشماليون من حملة السلاح الذين كانوا ومازالوا تحت إمرة القيادة العامة لقوات الحركة الشعبية بجوبا، والمهمة الموكلة لهم هي شن هجمات عصابات لقتل وترويع الآمنين للضغط على الجانب الحكومي ليرضخ في مفاوضات أديس أبابا ويتخلى عن إصراره على اقتصار المفاوضات على المنطقتين «النيل الأزرق وجنوب كردفان»، وجعل المفاوضات مفتوحة باسم ما ظلوا يطلقون عليه «الجنوب الجديد والمهمشين»، وإدعاء التفاوض باسم الشعب السوداني بلا تفويض منه لفرض مشروعهم المسمى السودان الجديد العلماني. إن الطرف العسكري الثاني في الجبهة الثورية هو الحركات الدارفورية المتمردة المسلحة التي نسيت دارفور وقضاياها تماماً، ولن ترضى حتى لو منحت دارفور الآن نصف الميزانية العامة للدولة، ومنحت نصف المواقع السيادية في الحكومة الاتحادية، لأن تلك الحركات أضحت دمى تحركها القوى الأجنبية التي تمولها، والمطلوب منها المساهمة في إسقاط النظام الحاكم. والرافد المدني للجبهة الثورية هو تحالف المعارضة الذي لا تعوِّل عليه القوى الأجنبية كثيراً في المستقبل، وتدرك أنه وعاء لمتناقضات «سمك، لبن، تمرهندي» متباعدة فكرياً ومتشاكسة آنياً وتاريخياً، والمطلوب منها تحريك الشارع وخلق قلاقل ومظاهرات وعصيان مدني، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً لأنها لا تملك قواعد تستند إليها، وقد أبرم العسكريون والمدنيون في الجبهة الثورية في العام الماضي ما سموه «ميثاق كمبالا» الذي أبرموه في يوغندا وقبض «السمسار» الثمن وباع للجميع الترام وقبر ميثاقهم في مهده لأنه ولد ميتاً. وحاول البعض أن يقفوا في منطقة وسطى بين النظام الحاكم والجبهة الثورية، وأخذوا يرددون أنهم ضد العنف رغم أنهم أكثر لهفة على إسقاط النظام، وهم يطلبون من المشير البشير أن يتخلى عن حزبه الذي يرأسه ويصبح رئيساً انتقالياً محايداً لحكومة قومية انتقالية تجري انتخابات عامة في نهاية دورته الرئاسية الحالية، أي أنهم يريدون من البشير أن يصبح في وضع مماثل لوضع الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر عام 1964م، وللمشير عبد الرحمن سوار الذهب ود. الجزولى دفع الله بعد انتفاضة رجب أبريل عام 1985م، ناسين أو متناسين أن الرئيس المشير عمر البشير هو جزء أصيل من الحاءات الثلاثة المتماهية «حكومة، حزب، حركة» ويرأسها كلها. ولا يمكن أن يترك بيته المضمون لينضم لآخرين في خلاء مجهول، وسبق أن حاول سياسي منشق عن حزبه عين مساعداً لرئيس الجمهورية أن ينفرد بالبشير ويقيم معه حلفاً، ويتخلى الرئيس عن تنظيمه لينساق وراء الرديف «وليس الحليف الجديد»، أي أن جدادة الخلاء أرادت أن تطرد كل جداد البيت، فسخروا من القادم الجديد واعتبروه جسماً غريباً دخيلاً عليهم، وطردوه دون أن يطرف لهم جفن!! وعلى من ينادون بإعادة ذات الطرح ألا يضيعوا وقتهم في انتظار السراب وماء الرهاب، ولا بد من المرونة وإعلاء العام على الخاص والموضوعي على الذاتي. إن الوطن تجابهه الآن تحديات أمنية واقتصادية وضغوط أجنبية تقتضي التعاون وتشابك الأيدي والمشاركة الحقيقية لا الصورية في السلطة لمن يرتضي المشاركة. والحاءات الثلاثة المكونة لسلطة الإنقاذ مطالبة باختيار أقوى وأصلب العناصر العسكرية للأمن والدفاع وحكم الولايات الحدودية الملتهبة، وعلى قيادات الحاءات الثلاثة عند اختيارها التشكيل الوزاري الخلط بين أهل الخبرة الناضجين والشباب المتوثبين لخدمة أمتهم من التكنقراط أهل البلاء والعطاء والورع بتجديد الدماء في الجهاز التنفيذي في كل قطاعاته لإحداث نقلة نوعية لاجتياز المرحلة الحرجة التي يمر بها الوطن حالياً «وحواء السودانية والدة». إن عام 2014م الذي سيعقبه قيام الانتخابات العامة الرئاسية والبرلمانية والولائية والمحلية، سيكون عاماً حاسماً للنظام، تنفع فيه الواقعية ولا ينفع فيه وضع صورة وردية خيالية حالمة لا علاقة لها بالواقع، وبذات القدر فإن القوى الأجنبية المعادية تعتبر عام 2014م هو عام حسمها ومواجهتها لعدوها نظام الإنقاذ الحاكم الذي حاولت تليينه وتدجينه وتهجينه ولم تستطع، وستسعى لإضعافه وإسقاطه بتضييق الخناق عليه اقتصادياً ومالياً لدرجة عدم القدرة على توفير المرتبات والفصل الأول إلا بشق الأنفس، وخلق جفوة بينه وبين بعض أشقائه لئلا يمدوه بأية مساعدات. السعي مع بعض الأيدي الداخلية الخفية لإحداث ضوائق معيشية في الخبز وفي غيره، مع صب الزيت على نار الفتن والبؤر الملتهبة، والسعي لفتح جبهات تمرد في الشرق وغيره.. وهذا يقتضي من الجميع عدم دفن الرؤوس في الرمال، مع ضرورة النظر للأفق القريب لإيجاد معالجات عاجلة غير آجلة، والنظر للأفق البعيد لينهض هذا الوطن العظيم للمكان الرفيع اللائق به. ولكن النظر تحت مواطئ الأقدام والحسابات الضيقة هي التي تؤدي للمآلات السيئة، ولا بد من تضحيات كبيرة.. وكما جاء في رواية «عرس الزين» للأستاذ الطيب صالح فإن نعمة بت حاج إبراهيم كانت أجمل بنات قريتها، وقد رفضت كل من تقدم لخطبتها من عِلية القوم والوجهاء والأثرياء، وكانت في أعماقها تشعر بأن عليها تقديم تضحية كبيرة، وكانت تلك التضحية هي قبولها الزواج من ابن عمها «الزين» بمواصفاته التي ذكرها الأستاذ الطيب صالح، وآن أوان التضحيات الكبيرة كما فعلت نعمة بت حاج إبراهيم.