إذا حدث لا قدر الله أن أصيب حماركم في حادث مروري وأخذته للعيادة البيطرية فإن الطبيب البيطري سيقوم بإسعافه على التو والحين، ولا يسألك عن أورنيك «8» لأن حياة الحمار هنا تأتي في المقام الأول، وعليه فهو يباشر مهمته التي تدرب من أجلها وعلى المتضرر اللجوء للمحاكم. والشيء الوحيد الذي أنقذ الحمار من أورنيك «8» هو أنه حمار ولم يدِّع في يوم من الأيام أنه غير ذلك. ولكن الشيء الذي يعجل بأجلك وينقلك إلى دار خير من دارك وإلى أهل خير من أهلك، هو أنك إنسان وعليه يجب أن يكون في معيتك أورنيك «8» وأنت تنشد الإسعاف. في السبعينات من القرن الماضي وعندما كنت أعمل في متحف التاريخ الطبيعي كان قسم الأبحاث البيطرية يقع في الجهة الشمالية من شارع الجامعة، وكانت تربطني بمديره الدكتور المرحوم محمد الطاهر عبدالرازق علاقة صداقة حميمة وبجميع العاملين في القسم الدكتور أحمد علي بابكر والدكتور ياجي والدكتور الكاتب القصصي أمين محمود عيسى «رحمه الله» والأستاذ الشاعر الغنائي المبدع حسن الزبير ومدير المعمل المرحوم حسن الفكي وغيرهم. مشكلتي الحقيقية هي أنني عندما أصاب بمرض لا أعرف كيف أصف ما يوجعني وأجد صعوبة كبيرة في شرح ما بي من أعراض، ولهذا ذهبت لصديقي الدكتور محمد الطاهر عبد الرازق وقلت له: يا صديقي.. أنا لا أستطيع أن أصف ما يوجعني ولو حاولت لتلخبط الدكتور عندما يستمع لأقوال متضاربة لا يخرج منها بشيء، وربما قادته للتشخيص الخطأ. وأنت ما شاء الله حباك الله بمعرفة واسعة وعلمك «منطق الطير» وعندما يقف أمامك حمار لا تسأله عمَّ يشكو بل تكشف عليه مباشرة وتعرف علته وتعالجه. وهذه الطريقة هي الطريقة المثلى التي تنفع معي وعليه فإنه يشرفني أن تكون طبيبى الخاص وعندما أقف أمامك أرجوك لا تسألني ما بي وأن تعاملني كما تعامل الحمار فتكشف على حضرتنا وتقرر لي الدواء. ظل الدكتور محمد الطاهر عبدالرازق صديقي وطبيبي الخاص إلى أن انتقل إلى جوار ربه قبل سنوات قلائل. كنت في رحلة مع طلاب قسم الحيوان إلى جبال النوبة وعندما عدت كنت أشعر بإرهاق شديد حسبته يعود لتعب الرحلة، ولكن عندما زرت صديقي الدكتور محمد في مكتبه نظر إلي وتفحصني ملياً ثم وجهني للمعمل البيطري عند الأستاذ حسن الفكي لأعطيهم عينة من البول. وجاءت النتيجة من المعمل «3 صلايب» يرقان. كل ذلك وأنا لم أتكلم أو أشرح ما بي. ومن ضمن العلاج الذي وصفه لي صديقي الدكتور أن آكل ما استطعت من برسيم . نعم برسيم. والسؤال الوحيد الذي طرحته عليه من باب العلم بالشيء: ولماذا البرسيم؟ أجاب: لأنه يحتوي على «8%» بروتينات ولأنه يجعل المعدة تمتلئ ويساعد حركة الأمعاء. بعض الناس يشيرون بأكل الجرجير ولكن الجرجير به سخونة ربما لا تناسبك. وظللت آخذ الفتمينات مع الامتناع عن الدهون وأرعى في البرسيم وأزداد قوة يوماً بعد يوم إلى أن شفاني الله. وظلت نظرية الحمار تتبعني وظللت أغبط الحمار في كثير من الأحيان. فعندما كنت أقدم «برنامج طبيعة» كان الأستاذ الطيب محمد الطيب يرحمه الله يقدم برنامجه الناجح «صور شعبية». وذات يوم قدم حماراً كان صاحبة يقوم بتزيينه ببعض النقوشات والزخارف، وفي نهايه الأسبوع كنا نذهب للأخ فيصل صراف الإذاعة لنقبض مكافأة الحلقة، وكانت عبارة عن خمسة جنيهات تنقص خمسين قرشاً ضرائب. ولكني لاحظت أننا صرفنا الأستاذ الطيب وشخصي مكافأتنا كالمعتاد إلا أنه صرف للحمار وتسلمها صاحبه نيابة عنه مبلغ عشرة جنيهات دون خصم. وعندما سألت الأخ فيصل عن سبب تلك التفرقة الواضحة في المعاملة، أجاب بأنه ليست على الحمير ضرائب. ثم أن الحمار صرف بونصاً زيادة لأن هذا أجره. والآن نجد أن الحمار يتم إسعافه دون حاجة لأورنيك «8» في حالة تعرضه لمكروه لا قدر الله ويتمتع بمعاملة فيها تفرقة واضحة، أليس ذلك مما يدعو للغيرة من الحمار؟ أكتب هذا المقال وأنا قد بدأت الحديث عن إبنتي الطبيبة ترى ماذا كان سيكون شعوري لو أن إبنتي رفضت أن تنقذ حياة إنسان من أجل أورنيك «8»، وأين ذلك الحماس الذي بدأت به دراسة الطب لخدمة المرضى وتخفيف آلامهم والسهر على راحتهم حتى يكتب الله لهم الشفاء؟ وهل يمكن أن يحولها الروتين اليومي إلى شخص عديم الإحساس وهو يرى ما يعانيه أمام بصره، فيسأل إن كان شخصاً مهماً أم لا؟ لا أعرف ولكني لن أقبله كسلوك ولا أتمنى لبنتي أن تكون في يوم ما سبباً في وفاة إنسان أو تعاسته أو أن تعبس في وجه مريض مهما كان صغر حجمه الاجتماعي أو الجسدي. وقديماً قرأنا أنه من ضمن قوانين حمورابي في عهد الدولة البابلية قبل 4000 سنة كان هناك قانون ينص على بتر الأصبع البنصر للطبيب إن أخطأ في إجراء عملية جراحية. ولكن حمورابي لم يضمن قوانينه تلك قانوناً يتعلق بأورنيك «8» ولذلك ظل الأطباء يؤدون دورهم في إسعاف المرضى وعلاجهم بالنسبة لجمهور مملكة بابل والتي أقامت حضارتها في بلاد ما بين النهرين. ويا أورنيك «8» كم باسمك ترتكب الآثام.