عندما يحاول المرء أن يقرأ تاريخ الحضارات السودانية القديمة فإنه يجد الكثير من المفارقات التي تجعل ذاكرة التأريخ أحياناً معطلة وأحياناً مشوهة ومرات مغيبة. وتأتي هذه المفارقات باعتبار أن هذه الحضارات كانت قوية ومؤثرة على محيطها الجغرافي والإنساني الكوني، ولم نستفد من هذا الأرث الكبير للحضارة السودانية، ويجد الإنسان نفسه كي يحلل جزيئات هذه الحضارة وفق الشواهد التأريخية الأثرية واللغوية والمنطقية، هناك الكثير من الوقفات فما زالت هذه الأسماء للحضارات باقية بنسب مختلفة في الشواهد الأثرية وفي أسماء الأماكن والمواقع الدينية والسكنية، وفي كل هذه المراحل كان النيل قاسماً مشتركاً في معظم الأحيان في هذه الحضارات، ينسبون إليه أسماءهم ويربطون بينه وبين نظامهم الروحي والعقدي وينسبون مواقعهم إليه.. وما يميز الحضارة السودانية القديمة أنك تجدها في كل مواقع السودان، فالنوبة في جنوب كردفان يتحدثون لغة أقرب إلى لغة النوبة المحس ولا تختلف عنها كثيراً وهناك أيضاً كلمات مشتركة بين لغة النوبة في غرب السودان وبين اللغة البيجاوية الكنعانية وبين لغة أهل الشمال، وهناك مناطق في أقصى النيل الأزرق جنوب السودان الحالي تسمى بأسماء في أقصى شمال السودان مثل كريمة وكركوج وغيرها وكبوش وكبوشية وكرري وغيرها من التسميات، واسم كوكو الذي تتميز به قبائل النوبة تجده أيضاً في بعض المناطق في وسط السودان بل أثر على بعض القبائل العربية النازحة وتسميت به. ولا شك أن هذا التداخل والتمازج والتماثل أحياناً يفسر لنا ظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية تستحق البحث المضني وقراءة متعمقة لتاريخ السودان القديم لأننا من الماضي نستمد الحاضر ونؤثر على المستقبل. والتمازج الذي حدث بين العروبة والأجناس الأخرى في السودان تمازج فريد وقديم، خلق لنا واقعاً لا يمكن تجاوزه واختلاطات وأنساب صاغتها في نهاية الأمر دولة الفونج لأكثر من ثلاثة قرون في غالب إثني لا يمكن تسميته بالسودان العربي أو العرب السودانيين فقط، إن التحالف الذي جرى بين عبد الله جماع «شيخ العرب» وعمارة دنقس «زعيم الفونج» هو الذي خلق السودان الحديث وليست التسمية التي جاء بها الفاتح محمد علي باشا في القرن التاسع عشر للبلاد باسم السودان إلا تأكيد لهذه الحقيقة، وهي تسمية قديمة جديدة أخذت أصلها وجذورها من هذا التمازج العجيب. هذه المقدمة الطويلة أردت بها أن أقول إن السودان دولة عظيمة ذات تأريخ مؤثر وحباه الله باختلاف في الجغرافية ودورات التأريخ لتكون دولة فريدة وقوية مهما حاول البعض التقليل منها، وكل شعوب الدنيا هاجرت إليه في أزمان وأزمان وامتزجت بشعوبها وتسمت بأسماء قبائلها من شايقية وبديرية وجعليين وحلفاويين ودناقلة. وأحاول في هذا البحث أن أؤكد ما ذهب إليه كتاب ومؤرخون عرفوا حقيقة هذا البلد وحاولوا كتابة قصته، ومن أبرز هؤلاء البروفيسور الراحل العالم عبد الله الطيب والبروفيسور الشيخ حسن الفاتح قريب الله «في السودان أرض الهجرتين» والبروفيسور عون الشريف قاسم العامية في السودان، ولا ننسى المساهمات الكبيرة لمؤرخ حضارة السودان القديمة الدكتور جعفر ميرغني والبروفيسور العلامة يوسف فضل حسن وآخرين من علمائنا الأجلاء. فقد حاولوا جميعاً البحث والتقصي ولم يركنوا للكتب التي ألفها الأجانب، ولكن بحثوا عن المخطوطات واتصلوا بالكبار في السن ونقبوا ووصلوا واجتهدوا في سبيل معرفة تاريخ السودان والذي أدعو بشدة لقراءته مرة ومرات لأن لدينا كنزاً لا يوجد عند غيرنا، فنيلنا كنز وأرضنا كنز وإنساننا كنز وتاريخنا كله أسرار.. الحديث عن الحضارة السودانية يحتاج إلى الجرأة والشجاعة والإقدام، وهناك الكثير من المسلمات في تقديري غير صحيحة أو قل لم تجد الدراسة الكافية. ويمكنني أن أطرح بعض التساؤلات الآتية بجرأة كمدخل لبحث حقيقي عن هوية السودان وحضارته وتأكيدها كما طرحها بعض المؤرخين ومنها: أن العروبة في السودان عروبة أصل وليست عروبة هجرات حديثة. إن إبراهيم الخليل ولد وعاش على النيل وتزوج منه كل زوجاته وهن سارة، هاجر، صفورة وذهب ورجع إليه ودفن فيه «دفن بجبل البركل» أو الجبل المبارك. إن الرسول«صلى الله عليه وسلم» لم يقل للمهاجرين اذهبوا إلى أرض الإيمان والصدق إلا لمعرفته بأنها أرض الأنبياء من لدن نوح وإبراهيم وإسماعيل. إن الكنعانيين كانوا أصلاً على النيل، ثم ذهبوا إلى الفرات والجزيرة العربية وما زالت بقاياهم الأثنية موجودة في البجا وخليط سكان النيل. إن يام جد العرب، والياميون كانوا هنا في منطقة كردفان وأن عدداً من القبائل العربية في كردفان قبائل قديمة بما فيها المجموعة الجعلية ولا صلة لهم بالهجرات العربية الحديثة، وأن هذه الهجرات ما هي إلا تغذية راجعة. إن حيواني الجمل وحيوان الكبش أصلهما السودان وشعار الكبش عند النبتيين والمرويين شعار يجسد القدم والسيادة والأصالة. إن موسى عليه السلام أبحر من نيل السودان إلى منطقة توتي بالخرطوم وغفل راجعاً، وأن قصة موسى مع العبد الصالح كلها وقعت في السودان والخضر اسماً ورسماً وهوية لفظ سوداني وإنسان من السودان. إن اليهود تاهوا في تلال البحر الأحمر أربعين عاماً وليست سهول سيناء القريبة من فلسطين ومصر. إن جبل التاكا هو الجبل المقدس الذي اهتز بموسى ورجف وهو الجبل الوحيد الأملس، وأن المولى تجلى فيه، وأن التاكا وهمشكوريب منطقة مقدسة. إن سيدنا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء عندما طارده النمرود بن كوش اتجه إلى منطقة كردفان إلى «بارا» حوض الملك أو وادي الملك ثم اتجه إلى دارفور جبل مرة أو «مارا» وهو «جبل النبي» وأن «أبكر» بلغة الفور ولغة الدناقلة والمحس والنوبة تعني الملك الكبير، وكلها لغات متفرعة من اللغة الكوشية الكنعانية عندما كان الكنعانيون الكوشيون في هذه البلاد يحكمون لمدة تجاوزت الثلاثة آلاف سنة قبل الدولة المروية وهم البلميون الذين ذكرتهم بعض الكتب التأريخية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأن «نبتة» هذه الحضارة الكوشية الكنعانية حضارتها ممتدة آلاف السنين كما قال بذلك مؤخراً شارل بونيه الذي اكتشف مدينة أثرية عمرها أكثر من ألفي سنة بمنطقة كرمة وشهدت عهد إبراهيم عليه السلام وعهد موسى وعهد سبأ الأولى التي هي أصلاً في السودان وحكمتها بلقيس جدتنا«با/أئيل/قا/إسي». ومن المسائل التي أزعمها أن العرب ليسوا ساميين وهذه بدعة وإنما هم أبناء يام وأول من قال بسامية العرب هو شولتز النمساوي 1780م. ولم يسبقه أحد من قبل وشولتز أخذ التسمية من سفر التكوين وهو سفر يهودي «مضروب»، واليهود هم جزء أصيل من الكنعانيين وهناك سمات مشتركة بين اللغة الكوشية الكنعانية واللغة العربية واللغة العبرية وأن أبناء سام الذين كانوا أيضاً على النيل تأثر لسانهم بلغة كوش وكنعان وهناك أيضاً صلة بين لسان كنعان والمجموعة السامية واليهود ليسوا منها على الإطلاق ولا ميزه لأبناء سام على الآخرين من أبناء نوح إلا عبر نظرية معاداة السامية الحديثة التي أطلقها اليهود. اختلف الباحثون واللغويون حول أصل اللغة المروية وعلاقتها باللغة النوبية واللغات السودانية الأخرى. قريغث كان أقربهم للحقيقة ويعتبر قريغث هو من حاول فك رموز اللغة المروية منذ الستينات من القرن الماضي. وقال هناك صله قوية بين المروية والنوبية «المحسية» وأن أصلهما واحد. وقال إنهما ينتميان إلى مجموعة اللغات الشرقية السودانية.. وهذا أيضاً ما أميل أنا إليه أن الكوشية الكنعانية التي يتكلم بها البجا الآن هي أصل اللغة في شمال السودان، وحقيقة أن الشرق أثر في كل السودان والسلم الغنائي الخماسي يشبه غناء أهل الشرق ورقيص وسط وشمال السودان من عرضة للرجال ورقبة للنساء تشبه عرضة أهل الشرق رقصة الرقبة عند النساء تشبه رقصة أهل الشرق. إذاً فإن الفترة الكوشية الكنعانية التي اختلطت بالدماء العربية اليامية هي التي أثرت في السودان القديم وما زالت تؤثر حتى الآن، إن كلمة مثل «كسلا» تعني مكان تجمع المياه بالكوشية تشابه المعنى بالنوبية، فالكاء مكان، وأسي تعني ماء.. و«لا» تعني مرسى أو تجمع أو ملتقى ومنها كلمة أسكلا والتي تعني مرسى. والشاعر قال من الاسكلا وحلا.. ألخ. وكلمة قاش هي كلمة كوشية كنعانية تعني المقدس فحرف القاف يتبادل مع حرف الكاء وقاش تعني كاش وكاش بالنوبية تعني المقدس ومنها كاشا وتعني الرجل المبجل وهذا يعني أن الوادي المقدس «طوى» المذكور في القرآن هو «وادي القاش» لأن تاكا باللغة الكنعانية الكوشية وهو اسم الجبل يعني المكان المقدس أيضاً، وهذا يقودنا إلى أن جبل التاكا هو جبل موسى والبجاويون يطلقون على هذا الجبل جبل موسى، وفي منطقة الجبال الشرقية وهي جزء من جبال النوبة يطلقون على جبل اسمه جبل كاشا أي المقدس، وهذا يؤكد أن اللغة الكوشية الكنعانية ممتدة شرقاً وغرباً في السودان، وجبل التاكا الذي كان يتعبد فيه موسى عليه السلام وهو الجبل الأملس الوحيد في العالم الذي غار من شدة الرهبة وأن الماء التي اندفعت من باطنه هي ماء توت أئيل أو «توتيل» وتعني بركة ماء ابن الآلهة ويعني عند اليهود أنها بركة موسى، إن البركة في توتيل لها أربعة آلاف سنة يزورها العرسان منذ ذلك الزمان وهو عهد موسى عليه السلام. وأن الحلنقة هم القديسيون الذين زاملوا موسى ولم يفارقوه لكنهم ليسوا من اليهود، وإنما من محبي وحاشية وحواريي موسى، لأن كلمة حلنقة تعني حا أئيل نا «قا» «كا» أي القدسيون ولهذا منهم الشيوخ دائماً ومن بينهم الشيخ القراي. اللغة الكوشية الكنعانية وهي اللغة السودانية القديمة البعض يقول إنها جاءت من اللغة المصرية القديمة أو الهيروغليفية وهذا غير صحيح، والصحيح أن المصرية القديمة والهيروغليفية تأثرت بالسودانية القديمة، ولهذا نجد أن كلمة قنتي تختلف عن كلمة قنا في الأحرف لأن قنتي هي الأصل ونسبت إلى النيل وتعني المرسى وقنا لا تنسب إلى النيل لكنها تعني أيضاً المرسى والكثير من تسميات المناطق السودانية تنسب إلى النيل باللغة الكوشية القديمة أي اللغة الكنعانية المنسوبة إلى «كنعان بن كوش» فكلمة كوستي «تعني الأسد الذي يحرس ماء النهر» كو «أسد» «اسي» تعني ماء و«تي» تعني نهر وكلمة «كوة» تعني جزيرة الأسد، وهذه التسمية نجدها في شمال السودان وفي النيل الأبيض وتعني جزيرة الأسد«وكرما» الكا تعني هنا مقدس والرا تعني نبي والما تعني إنسان والكلمة تعني الإنسان النبي المقدس وربما عنت سيدنا إبراهيم عليه السلام لأن التسمية قديمة ومربوطة بفترة نبته وعهد إبراهيم عليه السلام خليل الذي تسمى به الحلفاويون منسوب إلى إبراهيم عليه السلام فأجداد الحلفاويين جميعهم خليل وما خليل بالكوشية إلا تعني «قريب الله» أو «الصديق» لأن الكاء والخاء يتبادلان «كا» «لا» «إئيل» فهي تعني المقدس قريب الله. وبعض المؤرخين يقول بأن الخليل ولد في الحلفاء الفرات والأصح هو أن الخليل ولد بالحلفاء «السودان» أو الحلفا النيل وتعني كلمة حلفا «حا/ أئيل/فا» وتعني الكبيرة الربانية عالية القيمة وهي تنسب للخليل ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بنبات الحلفاء الذي اكتشف وتسمى حديثاً فهي كلمة كوشية كنعانية قديمة ومن أقدم المدن في السودان تربط بعهد نبتة وبسيدنا الخليل وهي منطقة هامة تأريخية بالنسبة للسودان ولا بد أن نهتم بها وهناك منطقتان هامتان جداً في السودان وأرى أنهما مناطق لهما قدسية وتحتاج منا للعناية ووضعها ضمن مناطق التراث التاريخي السوداني وهي منطقة شيكان ومنطقة الشهيناب. وشيكان باللغة القديمة تعني المقدس، إن كلمة شي وتعني الأرض المقدسة والكا والنون تعني المقدس، وربما سكنها أحد الأنبياء، كما أن هذه المنطقة شهدت موقعة شيكان التي لم ينجو منها أحد حيث أبيد جيش هكس جميعه وبلغ عدده أكثر من عشرة آلاف عسكري. إذاً فإن شيكان منطقة أثرية بكل المقاييس وعلى السودانيين الاحتفال والاحتفاظ بها. كذلك شهيناب منطقة أثرية تعني الأرض التي بها قديسون كثر. وكلمة شي الكوشية أو المروية أو النوبية تعني الأرض ومنها جاءت كلمة أورتشي ملك الأرض وكلمة «شندي» الأرض أو الجزيرة وشي ندي أي الأرض البعيدة من النهر وكل المسميات والمناطق التي تبدأ بكلمة مثل شي تعني الأرض. والغريب في الأمر أن كلمة شي نت تيت بالحبشية تعني أرض أو مكان قضاء الحاجة وهذا يدلل على تلاقي اللغة الحبشية باللغة الكوشية. وهناك تسميات كثيرة ذات صلات بالنيل فيها سنار «اسي، نار» وتعني الحاجز المائي من الحجر «سكوت» وهي اسي ثم كوت.. وتعني مكان سكن غرب النيل واوسي تعني جزيرة المياه وأسوان تعني المياه النقية.. وفي مبحث سابق ذكرت أن كل الأنبياء ما عدا القليل منهم تسمياتهم سودانية كوشية من لدن نوح عليه السلام. وأن أسماء إسماعيل، زكريا، هرون، يوسف، يعقوب، سليمان، سلمان، الخضر، داؤود، صالح وخليل كلها أسماء سودانية يتسمى بها السودانيون لأن هنا منبعها وما قاله د. حسن الفاتح قريب الله أن ارض السودان هي أرض نوح وأن الذرية التي هي بعضها من بعض سكنت هنا وغرست الإيمان والصدق هنا لأن كلمة بنجامين ما هي إلا لقب سوداني كوشي تعني الملك الروحاني صاحب الأرض وهي تسمية كوشية فالهجرة النوبية إلى هنا وأمون ونوح وأولاده من هنا وعاشوا واستقروا في هذه الأرض البكر ومن ثم انتقل بعضهم إلى العالم بأراضيه المختلفة وفي أزمان مختلفة وفرعون من هنا كما من هنا أيضاً النمرود بن كوش. فالسودان والنيل غنيان بالحضارة والتاريخ.