في معظم بلاد الدنيا التي تتمتع بما يمكن تسميته بنظام «الدولة الحديثة»، لا ينشغل الناس كثيرًا بالتعديلات الوزارية التي تطرأ بين الحين والآخر على تشكيلة الحكومة الوزارية. وهي «أي التعديلات هذه» بلا ريب يمكن وصفها بأنها تكاد تكون نادرة الحدوث. وذلك بالتأكيد يرجع لأسباب كثيرة تتلاقى في محصلتها النهائية في معنى التكليف الوزاري الذي هو مسؤولية قبل أن يكون أي شيء آخر. فالتغييرات الوزارية ان لم تعنِ البحث عن جديد الفكرة والتطبيق وضخ دماء جديدة من أجل المزيد من الاداء الفعال للوزارة مع بقاء الهدف الرئيس بلا مساس فهي بلا شك لن تعدو كونها هدرًا للمال العام. ونعني بذلك أنه لا بد أن تكون هناك سياسات واضحة لكل وزارة وأهداف محددة تبقى هي الأصل والمرجعية لكل من يقبل أمانة التكليف، وله بعد ذلك أن يبحث عن أمثل الطرق للوصول لهذه الأهداف مهما تطلب الأمر وذلك بكل تجرد وأمانة ونزاهة مثله في ذلك مثل كل أجير يُستخدم لأداء عمل ما وهو أصل التكليف بدايةً. وبالتأكيد فإن هذا الأمر يقود مباشرة الى أمر هو غاية في الأهمية، ونعني به ضرورة أن تكون هناك سياسات محددة واضحة المعالم للدولة، أي أن تقوم الدولة على مبادئ مؤسسية تظل تخدم غاية وجودها، وهو ما نظل نفتقده في كل دول ما يطلق عليه العالم الثالث. ففرق بسيط جدًا ظاهريًا، لكنه عميق الجوهر يظل يشكل علامة فارقة بين الدولة الحديثة وغيرها، الا وهو قيام هذه الدولة على أسس متينة وقوية من المؤسسية التي تحكم كل الأداء بغض النظر عن كل شيء آخر. وهو ما يعني أن الحكم على نجاح زيد أو عبيد في أداء المهمة يكون مرهونًا بما يتحقق من ديمومة الأداء المؤسسي بعيدًا عن أي خرق وأيضًا وبنفس القدر بقاء الأهداف الرئيسية لعمل المؤسسة مع السعي لتحقيق أكبر قدر منها والعمل على تطوير الأداء بما يحسب لصالح الفرد «المواطن» في الدولة وهو المستهدف الأول بكل السياسات التي تنتهجها والذي من أجله وجدت هذه الدولة بداية. نقول ذلك وقد خفتت الضجة التي لازمت اعلان التشكيل الوزاري الأخير. والذي ملأ الدنيا وشغل الناس في البيوت والشوارع طيلة فترة ما قبل إعلانه وظلت التكهنات والتنبؤات تملأ منابر الاعلام، ثم تسودت صفحات الصحف وملأت المنابر من جديد أصوات التحليلات والقراءات بعد أن أعلن التشكيل الوزاري وكل هذا شيء صحي ومحمود ولكن انشغال حتى العامة والبسطاء بهذا الأمر وجعله شغلهم الشاغل، بدلاً من الانتاج والانتاج فقط، برغم أنه ربما يدل على وعي سياسي كبير، الا أنه يدل أيضًا على خلل كبير يصاحب العملية السياسية في البلاد. فانشغال العامة بمن يأتي ويذهب من الوزارة هو دلالة بلا شك على خلل يصاحب الأداء العام للدولة فالواجب قراءة هذا الأمر على وجهه الصحيح، وهو ما يعيدنا الى وجوب بقاء المؤسسية التي تحكم عمل هذه الوزارات ليطمئن الناس. وذلك يفترض أن يتم الاختيارعلى أسس منهجية بعيدًا عن أي تسويات أو ترضيات أو جهويات، والذي هو بالتأكيد المعيار لكل اختيار ناجح. انه لمن المهم بحق أن نوجد مراكز دراسات لقراءة وتقييم الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، قراءة تستصحب كل تداعيات الواقع وانعكاساتها في المستقبل القريب والبعيد، وذلك من أجل صنع مقاربة ربما تقود الى خلق واقع بملامح جديدة أفضل على مستويات عديدة. وهو ما يعود وينعكس بشكل أو بآخر على قمة الهرم السياسي في البلاد وهو الدولة بكل مكوناتها. فالسياسات العامة لأي كيان إنما تنبع أساسًا وبداية من ملامح مجتمعه، ومكوناته بكلياتها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وما لم نحسن قراءة هذه المكونات وندرك تمامًا العمليات التي تتم داخلها وكيفية تمازجها وتداخلها وتأثيرها وتأثرها ببعضها البعض فإنه لا يمكن بحال من الأحوال خلق دولة ناجحة، وصامدة خاصة في عالم يمور بمتغيرات عديدة وتحكمه قوى جديدة تعتمد فيما تعتمد على الفرد «المواطن» كقيمة تحكم نجاحها أو فشلها ليس داخليًا فقط بل وعلى مستوى الآخر خارج الحدود. ان التغييرات التي تتم داخل الجسم الحكومي ينبغي ألا تكون ذات ضجيج بلا أداء حقيقي، وينبغي ألا تشغل الناس بقدر ما يشغلهم أمر الإنتاج وتطوير الأداء كل على مستوى عمله وذلك يعتمد اعتمادًا كليًا على أن تقوم الدولة على مبادئ مؤسسية يثق بها الناس ويعتمدون عليها لتحكم أداء كل مكلف جديد «وزير»... بغض النظر عن هُويته.