جرت في تونس امس أول انتخابات ديمقراطية في دول الربيع العربي، وأول انتخابات حرة حقيقية في تونس منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1956. وتشير الدلائل إلى أن البلد الذي يبلغ تعداد سكانه عشرة ملايين نسمة خرج من الاحتلال الفرنسي إلى الاحتكار الوطني وهو يعاني من «مجاعة ديمقراطية» شديدة، فقد تشكل بعد ثورة 14 يناير 115 حزبًا وترشح للانتخابات التي سيتم في ضوئها اختيار المجلس التأسيسي 11 ألف مرشح، يتنافسون في 217 مقعدًا. بمعدل نحو 50 مرشحًا تقريبًا لكل مقعد، وهؤلاء المرشحون توزعوا على 1500 قائمة انتخابية «701 قائمة مستقلة و790 حزبية، 79 ائتلافية». المجلس التأسيسي الذي يعد أول لبنة في النظام الجديد سيتولى تسمية رئيس البلاد وتشكيل الحكومة إضافة إلى وضع دستور جديد. ولأهمية المهمة الملقاة على عاتقه في تشكيل المستقبل تنافست فيه مختلف القوى السياسية التي تتوزع على ثلاثة تجمعات. الأول يضم الإسلاميين، والثاني للتيار الليبرالي والعلماني، والثالث لقوى اليسار من شيوعيين وقوميين. هناك معسكر رابع يضم جماعات يطلق عليها اسم »الدستوريون» الذين ينسبون أنفسهم إلى تراث مرحلة ما بعد الاستقلال وقبل الثورة «مرحلة الحبيب بورقيبة» وآخرون يعرفون باسم التجمعيين نسبة إلى التجمع الدستوري الذي كان حزب الرئيس بن علي. وهؤلاء شكلوا 46 حزبًا، يقودها سياسيون ووزراء سابقون. ترشح استطلاعات الرأي حزب النهضة الإسلامية لكي يحتل المرتبة الأولى بين الفائزين في الانتخابات، يليه مباشرة الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يضم شرائح واسعة من الليبراليين والعلمانيين. في المرتبة الثالثة بعد هؤلاء وهؤلاء يأتي أحزاب اليسار القومي والماركسي ثم المستقلون. إذا كانت تلك هي التيارات التي تتحرك على السطح، فإن الحضور الفرنسي في الانتخابات له قوته المشهودة تحت السطح، ذلك أن فرنسا التي تحاول استعادة دورها التقليدي في المغرب العربي ما كان لها أن تترك الساحة دون أن تقدم دعمها المادي والأدبي للقوى التي تتوافق مصالحها معها، ولذلك فهي تساند بشدة مختلف الأحزاب المنافسة لحزب النهضة. ثمة أوجه شبه وتمايز بين التجربتين التونسية والمصرية. من بين المتشابهات أن غضبة الشعب والسقوط السريع للنظام من العوامل التي أسهمت في نجاح كل من الثورتين والإسراع بالانتقال إلى النظام الجديد، منها أيضا ان الاستقطاب العلماني الإسلامي يهيمن على ساحة التنافس السياسي. وان كان التيار العلماني في تونس أكثر تجذرًا وجرأة «بعض رموزه دعوا إلى النص على علمانية الدولة في الدستور». منها كذلك أن النظامين السابقين حظرا الإسلاميين من المشاركة في العمل السياسي، والذين عادوا بقوة وسرعة إلى الساحة بعد الثورة. منها كذلك أن في البلدين تيارًا سلفيًا نما واتسعت قاعدته حين أخليت الساحة له بعد حظر تيارات الاعتدال. منها كذلك أن البلدين عانيا من الفوضى بعد سقوط النظامين جراء تدهور الوضع الأمني ونقمة المجتمع على الأجهزة الأجنبية التي ظلت الأداة الرئيسية للقهر والقمع الذي مارسه كل نظام، وإن تم ذلك بدرجة أشد وأقسى في تونس. منها أيضًا أن كلاً من البلدين يعاني أزمة اقتصادية خانقة بعد الثورة. مما اختلف في تجربة البلدين أن الجيش ظل محايدًا وخارج اللعبة في تونس، وأن جهاز الإدارة القديم لا يزال هو الذي يدير الحكومة والمجلس النيابي، في حين أن المجلس العسكري هو الذي يدير البلد في مصر، بعد انحياز الجيش للثورة. من تلك التمايزات أيضًا أن السياسيين التونسيين الذين برزوا في مرحلة ما بعد الاستقلال لا يزال لهم حضورهم المقدر في المجتمع، كما أن المجتمع المدني ممثلاً في اتحاد العمال ونقابات المحامين والقضاة ومنظمات حقوق الإنسان ظل محتفظًا بقوته النسبية في تونس على عكس الوضع في مصر. فسمعة المشتغلين بالعمل العام طوال عهد مبارك لم تكن فوق الشبهة، وما زالت تهمة «الفلول» تطاردهم، ثم إن المجتمع المدني تم تدميره بالكامل، ولم تنج من التدمير غير جماعات محدودة أغلبها يدور في فلك المنظمات الحقوقية. لقد سبقنا التونسيون بالثورة ولحقنا بهم، ثم سبقونا إلى خطوات تأسيس النظام الجديد، وها نحن نحاول أيضًا أن نلحق بهم؛ صلوا من أجلنا، ومن أجلهم أيضًا.