في الفترة من ( 8 إلى 13 /5 / 2011م) شهدت الأوساط الثقافية وجمهرة المحبين للشعر والأدب عدة أمسيات شعرية وندوات أدبية بقاعة الصداقة بالخرطوم ومسرح خضر بشير بالخرطوم بحري والمسرح القومي بأم درمان، وقاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات بالخرطوم. وقد اشترك في مهرجان ملتقى النيلين للشعر العربي بالخرطوم، لفيف من كبار شعراء وأدباء الوطن العربي والسودان. وفي اعتقادي أن هذا المهرجان الشعري الكبير الذي التقت فيه كوكبة نيِّرة من كبار شعراء ومفكري الأمة العربية مع أشقائهم ورصفائهم من الشعراء والأدباء والمفكرين السودانيين يعد بحق، إنجازاً ثقافياً عظيماً مقدّراً، يستحق القائمون عليه التهنئة والثناء. وهذا المهرجان الشعري أقيم برعاية السيد رئيس الجمهورية المشير عمر حسن أحمد البشير، وإشراف السيد والي ولاية الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر والسيد وزير الثقافة والإعلام بولاية الخرطوم الدكتور محمد عوض البارودي. ولقد سعدنا في ملتقى النيلين بالشدو العذب الجميل من بلابل الشعر العربي الأصيل الرصين. ملتقى النيلين »المقرن« في الإبداع الشعري السوداني إن لقاء النيلين »الأزرق والأبيض« في الخرطوم، لقاء أزلي مبارك لنهر النيل الخالد، جعله الله تعالى مثالاً طيباً ورمزاً عظيماً لعروة الوثقى التي توطد أواصر الحب والوحدة والتآلف بين أبناء وادي النيل. ولكم تهفو أرواح الشعراء لعناق أمواج النيل، وتسعد بلقاء النيلين في المقرن كرمز عبقري خالد للحب والوفاء، وكوثر يهَبُ الناس الخير، والنعماء، يروي غليل الظامئين بصهباء الطهر والصفاء، وسلاف الفراديس، والزلال العذب كما قال الشاعر إدريس جمال: النيل في نشوة الصهباء سلسله وساكنو النيل سُمّار وندمان تمشي الأصائل في واديه حالمة يحفُّها موكبٌ بالعطر ريّان له صدى في رحاب النفس رنّان إذا العنادل، حيّا النيلَ صادحُها والليلُ ساجٍ، فعمّت الليلَ آذانُ حتى إذا ابتسم الفجر النضير لها وباكرته.. أهازيجٌ وألحانُ تحدّر النور من آفاقه طرباً واستقبلته الروابي وهو نشوان! وعلى قيثارة الفن والجمال يُوقِّع الشاعر المبدع التجاني يوسف بشير أنغام حب ووفاء لنهر النيل الخالد وهو يناجي الحبيب والنيل بمقرن النيلين ويجدر بالذكر هنا أن حي المقرن من الأحياء السكنية العريقة في الخرطوم، وهو بالقرب من الموقع الذي يلتقي فيه النيلان الأزرق والأبيض ويقول الشاعر التجاني يوسف بشير في قصيدته: غننا يا جميل أغنية النيل وبارك بسحر عينيك فيه وانحدر موجة على الشط غرقى غير مسترفد.. ولا معتفيه إن في حسنك العميق لأنهاراً عذاباً تغُصُّ من آذيه إن في وجهك الوضئ وعينيك ينابيع من دلال وتيه أنت يا فاتني أم النيل زخّار بنفسي كليكما من شبيه؟ غننا السحر من شواطئه الخضر وغنّ الزمان من ماضيه واذكر سالفاً مجيداً على الدهر عزيزاً على كرام بنيه! وبإحساس مفعم بالسعادة والفرح، اتجه الشاعر مهدي محمد سعيد إلى مقرن النيلين، ليمتع ناظريه برؤية الضفاف السندسية... والقمر... والأزهار حيث جلسَ على ربوة بشاطئ النهر، مردداً أهازيج البهجة والمسرة، قائلاً: قصدتُ إلى النهر في أمسيه لأسعد قلبي بألحانيه جلست إلى الشط في ناحيه أداعب أزهاره الناديه وأرشف من خمره الصافيه وأشربُ من دنّه الدافقِ وأنشقُ من عطره العابقِ ٭٭٭ هناك وفي الليلة الباسمه هناك وفي الضفة الحالمه يرفرف فوق الغصونِ الزَّهَرْ ويبسم فوق الرياض القمرْ تنام البلابل فوق الشجرْ ٭٭٭ وصوت الجداول والساقيه كناي يرجّع آلاميه أحن إلى البسمة المشرقه وأشكو من اللوعة المحرقه وأهفو إلى الوردة المونقه ٭٭٭ وعلى الرغم من جلوس الشاعر بشاطئ النيل في المقرن الجميل، وأمام ناظريه مشاهد الطبيعة الخلابة، الموشاة برونق الزهر وظلال الأشجار وضياء القمر، إلا أن أحساسه بالسعادة لم يكتمل، لأنه ظل يشكو من شجن ولوعة محرقة، وهو يهفو إلى وردة مونقة، يخفق بحبها قلبه الوالِه المُدْنَف، وقد استحوذت على فكره ومشاعره تلك الوردة الزاهية البديعة. ٭٭٭٭ وفي أمسية أخرى، ممتعة شائقة أمضاها الشاعر المبدع مهدي محمد سعيد بمقرن النيلين برفقة صديقه الأديب الراحل الأستاذ عبد الله حامد الأمين رئيس الندوة الأدبية بأم درمان وقد أنشد الشاعر أهزوجة بديعة عبّر فيها عن مدى سروره وسعادته في تلك الأمسية الجميلة، وهو يقول: زهى مقرنُ النيلين هيمانَ ضاحكاً تداعبه الأنسامُ من كل وجهة تبرّج فيه الحسن والحب والهوى وتشبعه الأمواج لثماً بخفّة وأترعت الأضواءُ راحاً مُلوّناً فكأسان في دوح وأخرى لزهرةِ أدور بعيني تائهاً في جماله أهلل في سرِّي وأهفو لسجدةِ وأحبس أنفاسي على قلبٍ والهٍ تُغرِد في أحشائه كل فتنة تنزه واستشرى وأقفل راجعاً وأبدى حياءً من لهيب ونشوة ٭٭٭٭ وفي تهويمة شاعرية انطلق خيال الشاعر مهدي محمد سعيد في عالم الخيال والأحلام التي تهدهدها وتوشوشها نسيمات الشاطئ الشذية العليلة وتُحرِّكها أمواج النيل في مدّها وجزرها، وها هو الشاعر يصف أحواله نفسياً وذهنياً كعاشق متيَّمٍ والهٍ بمقرن النيلين، قائلاً عن أحلامه الزاهية، وخياله المجنّح. وهوّم في دنيا تطوفُ بفكره حقيقة أحلامٍ، وحلمُ حقيقةِ أحس بهمس الفاتنات كأنما يوقِّع موسيقى على الروح شًعَّتِ توقّد ضوءُ الحسن في وجناتها كما اتّقدت في مهجتي كل فكرةِ ويسبحن في دنيا من الشوق والصبا وأسبح في موج عتيّ.. وحيرة ويروي الشاعر مهدي محمد سعيد بأسلوب شعري قصصي رقيق، ما اختلج بوجدان صديقه عبد الله الأمين من شعور الحب والإعجاب بالرغم من أنه كان أمام النهر يذوب حياءً من سهام العيون الساحرة. ويقول الشاعر: ولي صاحب حطّت عليه رحالها عيون الغواني في حياءٍ ورقةٍ يذوب لأدنى منظر من مليحة فيشدو بأنغام، ويُغضي بهيبة يُعيد ويُبدي في الحديث وينثني عن القول مشغولاً بإعجاب لفتةِ وجاءت بخطوٍ راقصٍ في تدلل مهفهفة تختال في زيي ملكة! ومن وحي المقرن وجمال الطبيعة فيه، نظم الشاعر محمود إبراهيم الشرقاوي أبياتاً بعنوان: «أغنية غروب» قال فيها: حرّك الليل من الماضي السعيد وتراً حنّ إلى الطيف البعيد فشكى للأفق والبدر الجديد من رأى في الشط ملتاعاً وحيداً؟ يا ضفافاً قد سقى النيل ثراها فنمى الفردوس في كل رباها وازدهى الزهر بها لما كساها ليت ماضي منك ولى، لو يعودا علليني.. يا روابي.. علليني بنسيم قد يداوي من حنيني أطلقي في الليل لحناً من شجوني لحبيب صار عن أفقي بعيدا وعند زيارة الشاعر الكبير الأديب المفكِّر عباس محمود العقاد لمقرن النيلين بالخرطوم في عام 1949م نظم الأبيات التالية: تفسير حلمي بالجزيرة، وقفتي بالمقرن حلمان حظهما خيال دون حظ الأعين ما دمت بينهما، فما أنا سائل عن مسكني وإذا التذكُّر عاد بي، عطف الجديد فردّني يا جيرة النيل المبارك كل نيل موطني!