رغم أن حالة الجدل الكثيف الذي خلفته إسقاطات الخطاب الرئاسي حيث تبعثرت التفسيرات والتبريرات والتحليلات في اتجاهات ومسارات ظل القاسم المشترك بينها جميعاً أن هذا الخطاب الرئاسي أفلح في أن يرسم حالة غير متسامحة مع مبادئ ومفاهيم الشفافية والتي قالت الحكومة إنها إحدى مرتكزاتها في المرحلة القادمة. وكثيرون يعتقدون أن الخطاب أثار غباراً كثيفاً كان له الأثر الكبير في حجب الرؤية عن حقيقة الإصلاح الشامل الذي تنشده الدولة وربما أضاف الكثير من التعقيدات للقضايا السودانية.. وقد يكون عنصر المفاجأة الوحيد عشية الحفل الخطابي تلك الحالة «الترابية» التي تجلى عبرها الشيخ حسن الترابي وكأنه في أسمى درجات الانتشاء والرضاء حتى لو أن هذا الخطاب تعرض لبعض راجمات ورشاشات جماعة المؤتمر الشعبي أو الترابي نفسه بل ان كثيراً من التفسيرات ذهبت في اتجاه الربط «العضوي» بين مضامين ومفردات الخطاب مع شكل وطبيعة القاموس السياسي والفكري لدى الشيخ حسن الترابي ولهذا كان زعيم المؤتمر الشعبي وكأنه الفارس المتوّج في تلك الليلة. وإن كانت هناك دلالات تستوجب التأمل والبحث الدقيق إن ما بين انتشاءة الترابي وصمت علي عثمان وغياب العسكريين في تلك الليلة تمتد جبال من التأويلات والتخيلات والحقائق المستترة في فضاءات وتناقضات الحركة الإسلامية الحاكمة والمعارضة وتظل الدلالة الأخرى هي أن لقاء البشير والترابي يعتبر أول لقاء سياسي يجمع الرجلين منذ فتنة الرابع من رمضان الشهيرة في العام «1999» وربما يكون هذا اللقاء خاتمة الأحزان والاحتقانات في كيان الحركة الإسلامية او هكذا يراهن دعاة الوحدة الإسلامية. اشتراطات أبو عيسى الحكومة قالت أو بالأحرى الرئيس قال إنه سيجلس مع كل قادة الأحزاب للوصول معها إلى الحد الأدنى من السقوفات والتفاهمات السياسية بما يجنب البلاد الويلات والاحتقانات إلاّ أن المعارضة التي يقود دفتها تحالف أبو عيسى تتمنع وترفض مثل هذه اللقاءات دون أن تحدد لها اشتراطات وأجندة مسبقة، فيما تعتقد مجموعات عقائدية وتنظيمية أخرى داخل التحالف أنه لا قيمة لأي لقاء قبل الدعوة لإسقاط الحكومة وذهبت بعض المجموعات المعارضة إلى الحد الذي وصفت فيه لقاء قاعة الصداقة الأخير بأنه «فخ» وشرك أفلحت قيادة المؤتمر الوطني كثيرًا في إنتاجه بعناية ودقة ويبدو أن المؤتمر الوطني يعول كثيرًا على إرادته الجديدة لإنفاذ مشروع الإصلاحي الشامل فالحزب يخشى من أن تطاله قوة الأزمة وضغوطها التي تأخذ بتلابيبه وتحكم قبضتها على مفاصل الدولة والحزب فما بات هناك يسعف الحزب أو يتيح له فرصاً أخرى للمناورة والتكتيك فالشعب استنار بكل الحقيقة والخصوم رغم ضعفهم وتجازباتهم الخاصة هم أيضاً أحد مفاتيح الحل ومهما كانت اشتراطاتهم تعجيزية ولكنها في النهاية واجبة الاستجابة والتطبيق. سقوط مشروع «التمكين» في غمرة انشغالاتها وتسوياتها السياسية تتناسى الحكومة قضية الخدمة المدنية التي دخلتها جرثومة القبلية والمحسوبية و«العائلية» ونخرت في عظامها واستوطنت بطونها ونهشت من شحمها ولحمها وأحالتها إلى ركام وأشلاء وبقايا فسقطت الدولة وانهارت مفاصلها لأن مشروع التمكين الذي تبنته «الإنقاذ» الثورة في بواكيرها بنيت فكرته تماماً على الولاء السياسي والتنظيمي الخاص وأسقط من مفاهيم الدولة كل قيم الكفاءة والقدرة والأهلية.. فتشردت جيوش وأرتال من هذه الكفاءات إلى الشارع العريض تمتهن الهامش والتبطل بعد أن قست عليهم سياسة الصالح العام «سيئة الذكر» والقدر الأكبر من هؤلاء اصطف على أبواب الموانئ والمطارات بحثاً عن مهاجر جديدة وعن معائش وملاذات آمنة، وهناك الملائيين من السودانيين الفارين من جحيم الداخل إلى مهاجر أكثر ضياعاً كأنهم «يستجيرون بالنار من الرمضاء» ولهذا فإن إصلاح الخدمة المدنية ومعافاتها من أمراضها وعللها ربما هو الخطوة الأولى والمطلوبة لإجهاض مشروع التمكين والبداية الصحيحة والجريئة لإنهاء عذابات كل هذه الكفاءات التي استوطنت مهاجرها. فإذن المؤتمر الوطني في مشروعه الإصلاحي القادم هو أمام هذا التحدي الكبير والخطير لإثبات حقيقة وصدقية مبادرة إنهاء آجال مشروع التمكين الذي أفقر الخدمة المدنية من كل قيم النزاهة والكفاءة ومن شأن هذا الإصلاح أن تتحقق دولة المواطنة والحقوق وتتلاشى من مؤسساتها إمبراطورية العائلة والقبيلة والمحسوبية وتسقط فكرة التمكين. الناس على دين «إعلامهم» تتجه الحكومة بكلياتها لعقد مؤتمر القضايا الإعلامية لأن الواقع المحيط بالدولة السودانية في وقتها الراهن يستدعي وبشدة العقل السوداني والنخبة السياسية حاكمة ومحكومة لاعترافات وإقرارات شفافة وبريئة بأن قدراً كبيراً من أزمات وتعقيدات هذه الدولة وتجزر مشكلاتها يرجع إلى تلك الحقيقة القاسية بأننا لم نتعاطَ الإعلام برشد ولم نفسح له المساحات اللازمة والمشروعة بالقدر الذي تمكنه من لعب أدواره الحقيقية في صناعة الحلول ولكن وبكل أسف فإن الدولة بكل مكوناتها وأذرعها وإرادتها أجهضت مشروعها الإعلامي بعد أن أفقرته وضيقت عليه الخناق رغم أنها وفي قرارة نفسها مدركة تماماً حقيقة أن «الناس على دين إعلامهم» ولكن يبدو أن الحكومة لا تتسامح مع الإعلام إلا في المواسم والمناسبات الخاصة ولهذا جاء كسيحاً ومريضاً لا يقوى على السباقات الدولية ولا حتى الإقليمية فاختل خطابها وتراجع كثيرًا وبات أشبه بالحالة المزاجية العابرة حينها تلاشت خطط الدولة وإستراتيجياتها الإعلامية في الوقت الذي قطعت فيه بلاد كثيرة أشواطاً بعيدة في صناعة إعلامها وهي بالطبع بلاد أقل شأناً وقدرة من هذا السودان. وحتى ينصلح الحال أو أن يعود إلى حده الأدنى من المعقولية على الحكومة وعبر وزارة إعلامها أن تبدأ منذ الآن في جمع أشتات الأزمة وبكل أطرافها ومكوناتها وفي هذه المرة قد تجد الحكومة نفسها مجبرة تماماً في أن تسمع للناس «كل الناس» وألاّ تضع أي سقوفات أو اشتراطات للمشاركة في المؤتمر الإعلامي القادم حتى تتعدد الرؤى والأفكار ومقترحات الحلول. ويجب أن يكون هذا المؤتمر بلسماً شافياً لكل أمراض الإعلام السوداني وتعقيداته ويرد بشفافية على كل الأسئلة الحائرة على شاكلة.. لماذا تأخرنا من ركب الإعلام الإقليمي والدولي شكلاً ومضموناً؟ ولماذا إذن فشلت الدولة السودانية في التصدي للهجمة الإعلامية الخارجية التي لعبت دورًا كبيرًا في تأجيج أزماتنا بالداخل بحق وبغير حق؟ وعلى المؤتمر أن يصل إلى صيغة أو مشروع إعلامي يتفق عليه عامة السودانيين بأحزابهم المبعثرة ومنظماتهم المقعدة وتنظيماتهم الفكرية والعقدية والسياسية الباحثة عن هوامش ومساحات تعرض فيه إنتاجها دون إقصاء أو تسويف والمطلوب إذن وبشكل جاد هو إعادة ترميم العلاقة بين السلطة والصحافة وإخراج هذه العلاقة من دائرة الشك والتربص «والاختراقات» إلى فضاءات الحرية والتعبير المباح. ولعل الدول التي تحترم إعلامها وعقولها الإعلامية دائماً ما تخصص في ميزانياتها قدراً من الأموال والتسهيلات لدعم صناعة الإعلام حتى لا تتركها تأكل من «خشاش» الأرض وتتسول خارج حدودها وبالضرورة يعني هذا الدعم اعترافاً بهذا الدور الإعلامي في بناء الدولة وتسهيل مهمة الحاكم.. والرسالة التي يجب أن نبعثها بكل جراءة.. يا أيتها الحكومة قبل أن تهللي كثيرًا وتكبري.. وحتى لا تتبعثر جهودك وأموالك في الرهاب حددي أولاً كل المدخلات الواجبة لهذا المؤتمر حتى تحصدي في خاتمة المطاف ثمرًا ناضجًا وأفكاراً طازجة ورسالتنا للوزير الشاب أن هناك خبراء سودانيين بالداخل وفي المهاجر وأصحاب أفكار وتجارب «معتقة» في الشأن الإعلامي افسحوا لهم هذا الحق للمشاركة في بناء أوطانهم. دبلوماسية «استافورد» أنهى السفير الأمريكي جوزيف استافورد مهمته في السودان وغادر إلى بلاده تاركاً خلفه ميراثاً جديداً من العلاقات الناشئة بين الدبلوماسية الأمريكية والمجموعات الصوفية فقد شغل الدبلوماسي الأمريكي ساحات القباب والمساجد والخلاوي قبل أن يشغل الرأي العام بهذه التحركات والتوجهات الأخيرة.. واستافورد في خطبة وداعه بالمدينة المحورية جنوبالخرطوم لصاحبها رجل الأعمال عصام الشيخ قال إنه سيحتفظ بمكانة كبيرة وود واحترام لشمائخ الطرق الصوفية في سبيل بناء علاقات قوية وراشدة بين السودان والإدارة الأمريكية وامتدح السفير علاقته مع عصام الشيخ وتعهد بالتواصل معه.. وكانت زيارة استافورد لمنطقة عد بابكر قد أحدثت حراكاً كبيراً في الفضاء الدبلوماسي بين الدولتين وقد لعب عصام الشيخ دوراً كبيراً في تصحيح بعض مفاهيم واعتقادات السفير الأمريكي.