انطوت اثنان وأربعون عاماً كان فيها القذافي جاراً لئيماً يحشر أنفه في شؤون السودان الداخلية وسبّب صداعاً دائماً وأحدث كثيراً من القلاقل والمرارات، ومرد اندفاعه وطيشه أنه تولى السلطة وهو شاب صغير في السابعة والعشرين من عمره، كان ممتلئاً بالحماس وبدرت منه منذ بداياته الأولى تصرُّفات هوجاء لا تليق برئيس دولة وعلى سبيل المثال عندما شهدت عمان عاصمة الأردن أحداث أيلول الأسود الدموية في عام 1970م وحدث صدام أردني فلسطيني وسالت دماء كثيرة بين الطرفين عقد الملوك والرؤساء العرب مؤتمر قمة طارئ وبعثوا الرئيس نميري على رأس وفد كان من بين أعضائه الباهي الأدغم رئيس وزراء تونس يومئذ ونجح نميري في مهمته وعاد إلى القاهرة وفي معيته الملك حسين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وعندما دخلوا القاعة التي كان يجتمع فيها الملوك والرؤساء وقف القذافي وأخذ يهتف بحماس: «مجنون مجنون» وهو يشير للملك حسين وفي تصرفه هذا مراهقة وعدم رزانة لا تليق برئيس دولة، وتكرر مثل هذا التصرف منه في مناسبات مختلفة ومؤتمرات قمة لاحقة بلغ فيها أحياناً حداً من الجلافة وقلة الأدب لا تليق برئيس. وأن السبب في غروره وغطرسته وعنجهيته أن الأنا عنده مضخمة وساهم في تضخمها أكثر أنه كان يحكم بلداً غنياً نسبة دخل الفرد فيه مرتفعة والحياة فية سهلة رغدة وأصيب بأحلام وأوهام الزعامة الإقليمية والعالمية وكان يصف نفسه بأنه عميد الرؤساء وملك ملوك إفريقيا... الخ و«بعزق» كثيراً من الأموال الليبية سفهاً لتحقيق أحلامه الذاتية وتدخل في أشياء لا تعنيه في كثير من قارات ودول العالم وأشعل كثيراً من الفتن والمؤامرات وأخذ يتبجح في أيامه الأخيرة بأنه موّل الحملات الانتخابية لعدد من الرؤساء في الدول الغربية ولعل كثيراً من هذه الدول قد سرها اغتياله وعدم القبض عليه حياً لأنه كان سيبوح بكل الأسرار وباغتياله أيضا ستدفن معه أسرار كثيرة تتعلق بالأموال الطائلة المودعة باسمه في بنوك تلك الدول وستظل هذه المسألة لغزاً حائراً. لقد تولى القذافي السلطة في شهر سبتمبر عام 1969م وتوفي الرئيس عبدالناصر في سبتمبر1970م أي أنه عاصره لمدة عام واحد فقط وبالرغم من أن الرئيس الليبي كان في السابعة والعشرين من عمره ولم تكن له مجاهدات سابقة ولا تجارب ومع ذلك وصفه عبد الناصر بأنه أمين الأمة العربية ولعله أدرك أنه شاب مندفع متهور وأراد أن يوظف ذلك مرحلياً ويتخذه مهرجاً يسبُّ بالإنابة عنه الإمبريالية والاستعمار ويشتم هذا ويهاجم ذاك لأن الإعلام المصري بعد نكسة يونيو عام 1967 م قد غيّر لهجته واختفى المذيع أحمد سعيد وأمثاله ووجد عبدالناصر ضالته في القذافي دون أن يكون ذلك محسوباً على مصر، ولكن لو امتد العمر بعبد الناصر فهل كان سيترك القذافي يسرح ويمرح ويتطاول كما يشاء أم أنه كان سيعمل على تحجيم دوره أو الإطاحة به عندما يستنفذ أغراضه ويستبدله بآخر يكون طوع البنان. وقد أطيح بالرئيس أحمد بن بيلا بانقلاب عسكري عام 1965م ودبر انقلاباً آخر فاشلاً للإطاحة بالرئيس العراقي المتديِّن الورع عبد السلام عارف وبعد أشهر معدودة مات في حادث تحطم طائرة في عام 1966م وإذا كان هذان الرئيسان الرقمان قد أطيح بهما بمؤامرات مدبرة فإن الإطاحة بالقذافي كانت ستكون سهلة. ولم يزر القذافي السودان قبل توليه السلطة ولم يكن يعرف عنه شيئاً ومع ذلك أراد عندما آلت إليه السلطة أن يكون وصياً عليه وأصرّ أن يقيم معه وحدة فورية وعندما طلب منه التمهل وعدم الاندفاع لأن السودان كان يشهد حرباً في الجنوب وأن أوضاعه الداخلية كانت تحتاج لترتيب، غضب وتنمّر وتفرعن ووقف وراء كثير من الفتن وسفك الدماء بين أبناء الوطن الواحد وأغدق كثيراً من الأموال لخلق المشاكل والقلاقل وهو أول من دعم تمرد قرنق مالياً ولوجستياً، وهو الذي ساهم في إشعال نيران الفتنة بدارفور، وهو الذي موّل حملة مهاجمة أمدرمان... وسجله تجاه السودان مليء بالمآسي. وقطعاً إن اللثام سيماط عن كل الأسرار وعن المعلومات وأرقام الأموال الليبية التي دفعت وصرفت في السودان عن طريق بعض الأفراد أو الجماعات ولعل بعض أفراد أسرة القذافي سيبوحون بالكثير المثير الخطر، أما الشعب السوداني فإنه لم يجد من القذافي إلا المتاعب وإن القذفي طالب بإعادة منحة قدمها للسودان وكونت لجنة من الرسميين والشعبيين وجمعت التبرعات باسم مال الكرامة وردت المنحة إليه. والآن وقد تغيّر النظام فإن ليبيا في الوقت الراهن تسعى لترتيب أوضاعها الداخلية، وقطعاً إن حلف الناتو سيسعى لاستعادة كل ما صرفه في المعارك في الشهور الماضية إبان الثورة الشعبية الليبية. وإن أصابع القوى الاستعمارية ستتحرك من أجل مصالحها لاستنزاف أموال ليبيا والظفر بأكبر قدر من المكاسب من هذه الدولة النفطيه أي أن ليبيا ستكون مجابهة بصد المطامع الاستعمارية وترتيب بيتها من الداخل ولابد لليبيا والسودان من فتح صفحة جديدة للتكامل الاقتصادي والأمن الغذائي.